ومضات على تاريخ كرسي الإسكندرية

الأنبا أنيانوس

إن تاريخ الأنبا أنيانوس وخلفائه التسعة المباشرين متشابه إلى حد بعيد وهذا التاريخ يروي أنهم كانوا حكماء صالحين يعلمون الشعب ويثبتونه على الإيمان بإخلاص متناه وبهمة لا تعرف الملل وإلى جانب ذلك كانوا على قدر كبير من البساطة والتواضع فاستطاعوا بجهادهم الحسن أن يكسبوا عدد كبير من الناس. ولقد استمتعت الكنيسة المصرية مدى القرنين الأولين للميلاد بسلام شامل قبل أن تهب عليها مختلف صنوف العذاب وشتى أنواع الاضطهاد وكأن السيد المسيح منح الكنيسة ذلك الوقت من السلام والاطمئنان حتى تتأصل جذورها وتثبت وتشتد فروعها. ويعتبر الأنبا أنيانوس أول من قبل الإيمان على يد مارمرقس وعندما قصد القديس مرقس باقي المدن الخمس الغربية وترك أقباط مصر بقيادة الأسقف أنيانوس قام ببناء كنيسة وعدد من المنازل لإيواء المساكين والمسافرين والغرباء وكان نشطاً في الخدمة. وحالما تعلم المصريون الإيمان شعروا بالحاجة إلى نشره في ربوع الوادي وفكروا في إنشاء مدرسة يمتد منها النور في مواجهة هؤلاء القوم المتضلعين في العلوم والفلسفة فأنشأ القديس مرقس المدرسة اللاهوتية. لقد قامت في مختلف البلاد المسيحية مدارس تهدف إلى نشر التعليم المسيحي ولكن مدرسة الإسكندرية أصبحت مركزاً لحياة فكرية عميقة فكان أساتذتها من أعظم العلماء المتبحرين في الفلسفة والعلم والأدب والعلوم الروحية ومن ثم فلم تكن المسيحية ستتقدم بدون هؤلاء الرجال.

الأنبا ديمتريوس الكرام

رأى الأنبا بوليانوس في حلم ملاكاً وسمعه يقول له (أن الذي يأتيك غداً بعنقود عنب سيخلفك), وفي اليوم التالي دخل ديمتريوس الكرام يحمل عنقود عنب هي باكورة كرمه ليقدمه للبابا المريض فقال الأنبا بوليانوس للمحيطين (هذا باباكم من بعدي) وقص عليهم الرؤيا. - ونشأ ديمتريوس بين الحقول لا هم له إلا العناية بالكروم التي كانت لأبيه ثم آلت إليه ولما بلغ رشده زوجه أبوه, فأطاع أمر أبوه عملاً بوصية الكتاب المقدس ولكنه اتفق مع زوجته أن يحتفظ كل منهم ببتوليته وكان ذلك سبب غضب البعض عند رسامته إلى أن ظهر له ملاك الرب يعلمه بضرورة إظهار الحقيقة للناس. - وبما أن ديمتريوس كراماً بسيطاً لم يتلق من العلم إلا القدر الذي يمكنه من القراءة والكتابة ولما وجد نفسه فجأة خليفة لمرقس البشير قرر أن يدأب على تحصيل العلوم الدينية والمدنية ليكون أهلاً لهذه المسئولية وأكبر دليل على تحصيله ما فاته من علوم ونبوغه أنه وضع الحساب الأبقطي وهو الحساب الخاص بتحديد عيد القيامة وهذا معمول به حتى الآن في الكنائس الشرقية. - كانت السنين الأولى من باباوية الأنبا ديمتريوس هدوء وسلام إلى أن استثار الإمبراطور الروماني سبتيموس ساويرس ضد مسيحي مصر وأعلن اضطهاده إياهم سنة 194م وسقط في هذا الاضطهاد عدد كبير من المؤمنين بينهم ليونيداس أبو أوريجانوس. - ولم تكد الأمور تستقر حتى ظهرت بدعة في بلاد العرب وكانت تابعة لكرسي الإسكندرية وتتلخص هذه البدعة بأن (النفس تموت بموت الجسد) فأرسل إليهم أوريجانوس ليجلس معهم ويقنعهم. - ولقد عاش الأنبا ديمتريوس 105 سنة وقد ظل حتى النفس الأخير مواظباً على تعليم شعبه ورعايته ليل نهار وبعد أن قاد دفة الكنيسة اثنين وثلاثين سنة وسبعة شهور جاهد خلالها الجهاد الحسن انضم إلى أسلافه ورقد في الرب والسلام مخيم على ربوع مصر.

الأنبا ثيئوناوس

كان رجلاً ممتلئا نعمة وحكمة وبانتخابه أصبح البابا السكندري السادس عشر عام 274م وقد أراد الله أن يكون هو الباني لثاني كنيسة بعد الكنيسة المرقصية وقد كانت ثاني كنيسة في القطر المصري وسميت بأسم السيدة العذراء والدة الإله (ثيئوثوكس) ولم يستطيعوا بناء كنيسة من قبل بسبب الاضطهادات.
واستمر السلام حتى سنة 284م حتى اعتلى ديوقلديانوس عرش الإمبراطورية الرومانية وكان والي الإسكندرية يسمي أرشلاوس فلم يخضع للإمبراطور فقامت بينهم معارك انتهت بانتصار ديوقلديانوس فدخل الإسكندرية ودك أسوارها وأذاق شعبها مر العذاب.
واستمر الوضع كذلك لفترة من الزمن ثم استقرت الأمور وعم الهدوء ثانية واستغل الأنبا ثيئوناوس هذه الفرصة وبعث برسالة إلى لوقيانوس كبير أمناء القصر الإمبراطوري قائلاً إن السلام الذي تستمتع به الكنيسة الآن هو نعمة من الله وأن الله قد اتخذه وسيلة لإبلاغ الإنجيل وكلمة الله إلى القصر الإمبراطوري ونشر رائحة الإنجيل داخل القصر. ثم أخذ يحثه أن يكون نصير الحق وضد الباطل وأوصاة وصايا كثيرة حسنة جداً.
-إن ما امتاز به آباء الكنيسة من تضلع في العلوم الفلسفية دفع بعض الكتاب إلى الزعم بأن الفلسفة الأفلاطونية كان لها أثر في تعاليم الكنيسة وهذا زعم باطل لأن تعاليم الكنيسة كانت قد انتشرت قبل أن يظهر أمونيوس بلوثينوس وغيرهم من أصحاب هذه الفلسفة الأفلاطونية الجديدة.
- ويبدو أن الأنبا ثيئوناوس قد أحس بما كان ينتظر شعبه من بلايا فأخذ يجاهد في تثبيتهم على الإيمان الأرثوذكسي، ومن خلفه من الأحبار كانوا يجهرون بأنهم لم يحيدوا قط عن تعاليم البابا ثيئوناوس.
وشاءت مراحم الله أن ينتقل إلى مساكن النور قبل أن تنزل هذه البلايا بأبنائه ولم يلبث ذلك السلام إلى أن انقلب إلى شر عهود الاضطهاد.

القديس مرقس البشير

يعتبر القديس مرقس كاروز الديار المصرية هو مؤسس الكنيسة المصرية وبالتالي يعد هو البابا الأول وصل القديس مرقس إلى الإسكندرية سنة61م ليبشر بالمسيح ويعرف المصريين بالمسيحية ويعلمها لهم *القديس مرقس بالنسبة لمسيحيي العالم أحد تلاميذ المسيح الذي كتب أحد الأناجيل الأربعة أما بالنسبة للمصريين فهو حامل بشري الخلاص لهم ومؤسس كنيستهم.
*أخذ القديس مرقس يعمل على تعليم المصريين المسيحية وينشرها بينهم حتى كان أتباعه يزيدون كل يوم إلى حد أقلق الحكام منه وعزموا القبض عليه ولكن المؤمنون ألحوا عليه ليغادر البلاد ليكون في مأمن من غدر الحكام فجمعهم القديس مرقس ورسم لهم (أنيانوس) أسقفاً كما رسم لهم أثنى عشر قسيساً وسبعة شمامسة ثم غادر الإسكندرية متوجهاً إلى المدن الخمسة ليتفقد الكنيسة التي أسسها هناك.
ولما عاد إلى الإسكندرية بعد فترة رجا منه المؤمنون أن يكتب لهم التعاليم التي سلمها لهم باللسان ليستطيعوا أن يسلموها إلى أولادهم وأولاد أولادهم فحقق لهم رغبتهم وكتب لهم إنجيله مستلهما بالروح القدس.
فأثار نجاحه المتواصل حقد الحكام فقرروا أن يتربصوا به وألا يفلت منهم هذه المرة وكان يوم عيد القيامة سنة68م وكان مصادفاً لليوم الذي يعيد فيه الوثنيون لإلههم سيرابيس والذي كانت عبادته من أكثر العباد انتشارا ًفلما تجمعت جموع الوثنيين حرضهم الحكام ضد مرقس البشير فخرجوا نحو الكنيسة ثائرين وقبضوا عليه وخرجوا به إلى الشارع وعذبوه طيلة اليوم وفي اليوم الثاني ربطوا حبلاً حول عنقه وأخذوا يجرونه على الأرض كما فعلوا في اليوم السابق فلم يلبث أن انفصل رأسه عن جسده فنال في ذلك اليوم أكاليل ثلاثة: إكليل الرسولية، إكليل البشارة، إكليل الشهادة.

الأنبا ياروكلاس

ولد الأنبا ياروكلاس من أبوين وثنيين ثم أعتنق المسيحية كما أعتنقها والداه فأرسلاه إلي مدرسة الإسكندرية وكان شغوفاً بالعلم إلي حد لفت انتباه معلمه أوريجانوس الذي قام عند اتساع نطاق مدرسة الإسكندرية أبعد مما كان يتوقعه، لم يجد من يعاونه علي نشر الدعوة الروحية لمدرسة الإسكندرية أكفأ من ياروكلاس
- لم يكن الأنبا ياروكلاس متضلعاً في الأسفار الإلهية فحسب بل كان متعمقاً في كل العلوم الفلسفية والتأملات في ما وراء المادة. فرسمه الأنبا ديمتريوس قسيساً فقمصاً ثم مديراً لمدرسة الإسكندرية بعد رحيل العلامة أوريجانوس إلي قيثارية (فلسطين).
* عندما انتقل الأنبا ديمتريوس أجمع الشعب والإكليروس على انتخاب ياروكلاس خليفة له سنة 224م.
وبعد انتخابه قام برحلة رعوية طاف خلالها القطر المصري كله وأثناء تلك الرحلة قام برسامة عشرين أسقفا
* اكتشف الإمبراطور مكسيموس مؤامرة تستهدف قتله فأوهمه المقربون إليه من رجال بلاطه أن المسيحيين هم المحرضون للمتآمرين فصدق تلك الوشاية وأثار اضطهادا مروعاً ضد الأقباط وكان للكهنة نصيب الأسد من ذلك الاضطهاد، فلما رأى المؤمنون ذلك خافوا على حياة باباهم وألحوا عليه بأن يختبئ وبعد إلحاح شديد وافقهم على رغبتهم وترك الإسكندرية.
* ومما يؤسف له أن ترجمة ذلك البابا العظيم قد ضاعت إذ مما لا شك فيه أن حياته كانت قدوة رائعة.
*انتقل الأنبا ياروكلاس إلى مساكن النور هادئ النفس بعد أن قاد دفة الكنيسة وسط أمواج متلاطمة مدى ستة عشر سنة.

القديس الأنبا ديونيسيوس


كان الأنبا ديونيسوس ابنا لأبوين علي مذهب الصائبة (عابدي الكواكب) وقد اهتم والده بتعليمه كل علوم الصائبة. وحدث ذات يوم أن مرت به عجوز مسيحية وبيدها بضع أوراق من رسائل بولس الرسول وعرضت عليه شرائها. فلما تناولها واطلع عليها وجد بها شيئا غريبا وعلما عجيبا. فسألها: "أتبيعينها؟" فأجابته: "نعم بقيراط ذهب"، فأعطاها ثلاثة قراريط، وطلب منها أن تبحث عن بقية هذه الأوراق وهو علي استعداد أن يضاعف لها الثمن. فذهبت وعادت ببضع أوراق أخرى. وإذ وجد الكتاب ناقصا طلب منها بقيته. فقالت له: "لقد وجدت هذه الأوراق ضمن كتب آبائي". وإذ أردت الحصول على الكتاب كاملا فاذهب إلى الكنيسة وهناك تحصل عليه

فذهب وطلب من أحد الكهنة أن يطلعه على ما يسمى رسائل بولس. فأعطاها له فقرأها ووعاها. ثم قصد القديس ديمتريوس البابا الثاني عشر. فأخذ البابا يعلمه ويرشده إلى حقائق الإيمان المسيحي ثم عمده. فتقدم كثيرا في علوم الكنيسة، حتى أن الأنبا ديمتريوس عينه معلما للشعب

ولما تنيح الأنبا ديمتريوس ورسم الأب ياروكلاس بطريركا جعله نائبا في الحكم بين المؤمنين. وفوض إليه أمر إدارة البطريركية.

ولما تنيح القديس ياروكلاس اتفق رأي كل الشعب على تقدمته بطريركا في أول طوبة (28 ديسمبر 246م)، في زمن الملك فيلبس المحب للنصارى، فرعى رعيته أحسن رعاية. غير أنه تحمل شدائد كثيرة. وذلك أن داكيوس تغلب على فيلبس وقتله، ولما جلس على أريكة الملك أثار الاضطهاد على المسيحيين، وقتل كثيرين من البطاركة والأساقفة والمؤمنين. ومات فملك بعده غالوس، فهدأ الاضطهاد في مدة ملكه.

ولما مات هذا الملك وملك مكانه فاليريانوس أثار من جديد الاضطهاد على المسيحيين بشدة وقبض على الأب ديونيسيوس وعرض عليه السجود للأصنام فامتنع قائلا: "نحن نسجد لله الأب وابنه يسوع المسيح والروح القدس الإله الواحد". فهدده كثيراً وقتل أمامه جماعة، فلم يردعه شيء من ذلك. فنفاه ثم استعاده من النفي وقال له: "بلغنا أنك تنفرد وتقدس". فأجابه: "نحن لا نترك صلاتنا ليلا ولا نهارا". ثم التفت إلى الشعب الذي كان حوله وقال لهم: "امضوا وصلوا". وأنا وإن كنت غائبا عنكم بالجسد فإني حاضر معكم بالروح." فاغتاظ الملك من ذلك وأعاده إلى منفاه.

ولما تغلب عليه سأبور ملك الفرس واعتقله، تسلم الملك ابنه غاليانوس وكان صالحا حليما. فأطلق المعتقلين من المؤمنين وأعاد منهم من كان منفيا. وكتب للبطريرك والأساقفة كتاب أمان أن يفتحوا كنائسهم.

وظهر في أيام هذا الأب قوم من بلاد العرب يقولون: "أن النفس تموت مع الجسد، ثم تقوم معه في يوم القيامة"، فجمع عليهم مجمعا وحرمهم. وظهر آخرون على بدعة أوريجانوس وسابليوس، ولما كفر بولس السميساطي بالابن، واجتمع عليه مجمع بإنطاكية لم يستطع هذا القديس الحضور إليه لشيخوخته، فاكتفى برسالة كلها حكمة، بين فيها فساد رأي هذا المبتدع، وأظهر صحة المعتقد القويم. وأكمل سعيه الصالح، وتنيح بشيخوخة صالحة في (8 مارس سنة 264م) بعد أن أقام علي الكرسي ألرسولي 17 سنة وشهرين وعشرة أيام. صلاته تكون معنا أمين .