منذ فجر التاريخ, وكانت الحاجة هي الدافع الرئيسي للإنسان.. كي يتغلب علي المشكلات التي تهدد حياته بالخطر, ويبقي الإنسان حتي الآن مسخرا فكره وجهده من أجل القضاء علي ما يواجهه من مشكلات
<P align=justify>
ويظل العلم هو المنهج والوسيلة الصحيحة للتغلب علي هذه المشكلات ويبقي العلماء دائما هم حاملو الشعلات التي تنير الطريق للبشرية حتي يسير خلفهم البشر في طريق إعمار الأرض, وحفظ الإنسان لحياته واستمرار بقائه,
ونظرا لما نعانيه هذه الأيام من تلوث يحيط بنا ويتغلغل في كل ما نأكل ونشرب ونتنفس.. وفي ظل ما تعانيه الأرض من ضيق بما اقترفه الإنسان من آثام صناعية هددت النظام البيئي للكرة الأرضية, لذا كان من الطبيعي أن يبحث العلماء عن حلول بديلة, لتخفف من معاناة الأرض وضيقها بالإنسان, وتخفف أيضا من معاناة الإنسان البسيط الذي غالبا ما يدفع ثمن جشع وطمع وطموح غيره من بني البشر..
وفي مركز البحوث الزراعية التابع لوزارة الزراعة.. توصل الباحثون بقسم المناخ الزراعي والمتخصصون في أبحاث الزراعة بدون تربة إلي طريقة مناسبة تمكن المصريين من استغلال أسطح وشرفات منازلهم لتصبح مساحة خضراء يمكن الاستفادة منها في زراعة العديد من النباتات التي إن لم تدر فائدة مادية مباشرة علي الأسرة..
تتمثل في الطعام الطازج والمضمون الذي يمكن للأسرة انتاجه وتناوله مباشرة بدون الرضوخ لابتزاز التجار وجشع البائعين, أو فائدة تتمثل في بيع الفائض عن الحاجة عبر منافذ بيع مباشرة أو غير مباشرة, فعلي الأقل ستتمثل الفائدة في المنظر الجمالي والمساحة الخضراء التي يمكن أن يستمتع بها الشخص خاصة ممن يعيشون في غابات الأسمنت المسماة بالمدن, هذا بالإضافة لما قد ينتج عنها من أزهار وروائح عطرية تنبعث من النباتات العطرية والمزهرة .. وما قد ينتج عن ذلك من هدوء وراحة للأعصاب ومتعة لا مثيل لها.
- فوق سطح المركز.. الطماطم في أصص.. والفراولة في المواسير
في مركز البحوث الزراعية الذي يقع في شارع ميشيل باخوم المقابل لنادي الصيد بحي الدقي.. استقبلني الباحث الزراعي خالد نصر والذي يشرف علي تنمية الزراعة فوق الأسطح, ليشرح لي نظم الزراعة المستخدمة فوق الأسطح والتي تتمثل في الزراعة داخل الاصص والمواسير علي ترابيزات مجهزة, وكل طريقة منها لها متطلبات خاصة في الرعاية, حيث يلزم الانتباه عند الزراعة داخل الأصص التي لا تحتوي علي فتحات لتصريف الزائد من المياه أثناء الري, بحيث لا تزيد كمية المياه التي يروي بها النبات علي الحاجة الفعلية له, حتي لا تتعرض الجذور للعطب والتعفن نتيجة زيادة كمية المياة.
أما عند الزراعة في المواسير, فيتطلب الأمر تجهيزات معينة تتم عادة حسب ظروف المكان واحتياجات الأسرة التي ترغب في الزراعة, ولهذه الطريقة عدة ميزات أولاها أنها تعطي منظرا جماليا وتوحي بوجود نافورة حقيقية في المكان, وتقوم تقنيتها علي وضع النبات داخل أكياس خاصة مثقبة من الأسفل داخل فتحات خاصة يتم فتحها في المواسير التي تمر بها المياه المزودة بدورها بمغذيات للنبات تساعده علي النمو بصورة طبيعية وبدون أي ضرر علي صحة الإنسان. ويحتاج الأمر عادة إلي موتور مماثل للموتور المستخدم في النافورات ليضمن استمرار حركة المياه فيمتص الزرع ما يحتاجه من ماء وغذاء في نفس الوقت.
بينما تحتاج الزراعة علي الترابيزات الخشبية إلي ترابيزة مصنوعة من الخشب بمواصفات معينة وفتحة من الأسفل لتصريف المياه الزائدة, ويتم وضعها بميل معين لضمان انحدار المياه الزائدة نحو فتحة التصريف, وتغطي الترابيزة الخشبية بنوع من البلاستيك الخاص شديد التحمل, ويتم وضع بيئة زراعية تتمثل في الكمبوست أو تربة طينية أو رملية أو مزيج من هذه الأنواع, حسب نوع النباتات المطلوبة زراعتها, وتكفي ترابيزة مساحتها لا تزيد علي متر في متر لتوفير احتياجات أسرة كاملة من الخضار مثل الجرجير والشبت والمقدونس طوال العام.
ويضيف الباحث خالد نصر: يمكن أيضا استغلال المساحات الفارغة تحت ترابيزات الزراعة في وضع نباتات الظل التي لا تحتاج للتعرض للشمس بشكل دائم أو مباشر, وقد نجحت تجارب زراعة العديد من المحاصيل والنباتات فوق الأسطح.. ومنها محاصيل زراعية مثل الخضر بجميع أنواعها, والفواكه وحتي نباتات الزينة والنباتات الطبية والعطرية. فالعالم يتجه الآن نحو استغلال المساحات الشاغرة خاصة في المدن لعمل مساحات خضراء تخفف بقدر الإمكان من ارتفاع درجة حرارة الأرض الناتجة عن الأنشطة الصناعية والاستغلال المتزايد للمحروقات خلال السنوات الأخيرة.
ويؤكد الباحث خالد نصر: المركز يفتح أبوابه دائما للجمهور ممن يريد الاستعانة بخبراتنا في هذا المجال, وعادة ما يلجأ لنا الكثيرون ممن قاموا بالفعل بتطبيق المشروع عندهم بعد أن سمعوا أو قرأوا عنه وواجهوا بعض المشكلات عند الزراعة, واحتاجوا للنصح أو الإرشاد, ونقوم وقتها بتقديم النصائح المطلوبة وما يحتاجه الناس من خبرات, حتي الشتلات والبذور يوفرها المركز بأسعار رمزية للجمهور, بالإضافة إلي الدورات التدريبية لمن يريدون تنفيذ المشروع فوق أسطح منازلهم.
ويضيف: لقد قمنا بتنفيذ هذا المشروع من قبل بالتعاون مع منظمة الفاو والجهاز القومي للتنسيق الحضاري, وقام بعض المستفيدين من المشروع بالزراعة فعلا, حتي أن بعضهم فاض إنتاجه الزراعي عن حاجته وبدأ في توزيع بعضه علي الجيران والأصدقاء والأهل, وبعضهم عجز عن تسويق فائض إنتاجه لأنه لم يتخيل أن ينجح في الزراعة لهذه الدرجة ولم يضع في ذهنه أنه قد ينتج ما يفيض عن حاجته لهذه الدرجة.
- زراعة الاسطح.. مشروع اقتصادي يحتاج إلي مشاركة اجتماعية
أما المهندس محمد أبو السعود رئيس قسم أبحاث المناخ الزراعي وأساليب الزراعة بدون تربة فيوضح أبعادا أخري للمشروع, حيث يقول: في الغالب لا تكون زراعة الاسطح مشروعا اقتصاديا إلا في حالة المشاركة بين الجيران من سكان العمارة الواحدة, حتي يتم تقسيم المهام والناتج أيضا بينهم, حيث واجهنا كثيرا بعض الحالات ممن قاموا بالزراعة بمفردهم وتوفر لديهم فائض إنتاج فشلوا في تسويقه حتي فسد, وتحتاج الأسرة الواحدة ما بين 12, 16 مترا مربعا لتغطية جزء مهم من احتياجاتها من الخضر, وبذلك تكفي مساحة 200 متر لخدمة عدد كبير من الاسر التي تسكن بالعمارة.
وتتمثل فوائد الزراعة فوق الأسطح كما يوضحها المهندس محمد أبو السعود في أهم نقطة تهم كل الاسر خلال الايام الحالية, وهي ضمان سلامة الطعام وعدم تعرضه للكيماويات أو الري بمياه الصرف, وبالتالي ضمان خلوه من المواد الثقيلة التي تمثل خطورة كبيرة علي صحة الإنسان, وضمان خلوه أيضا من تركيزات النيتروجين العالية, وهي المشكلة التي تعاني منها عادة الخضر الورقية,
حيث تحتاج الخضر الورقية إلي تسميد نيتروجيني بنسب محددة, لو زادت هذه النسب في التسميد فتؤدي إلي إضفاء اللون الأخضر القاتم علي الأوراق, وللأسف الشديد يعتقد البعض أن الخضروات مثل الملوخية كلما زاد اخضرار أوراقها فإنها تصبح الأفضل في القيمة الغذائية والطعم,
ولا يدركون أن اللون الداكن للأوراق الخضراء يدل علي زيادة نسبة تركيز النترات والنيتروجين في الأوراق, مما يؤثر سلبا علي صحة الإنسان وخاصة الأطفال حيث يتسبب في إصابتهم بالنزلات المعوية والإسهال, كما يمثل خطورة كبري علي من تخطت أعمارهم سن الأربعين, حيث تعد زيادة نسبة النترات في الجسم من العوامل المسرطنة, وينطبق الأمر علي الخضروات المروية بمياه الصرف غير المعالجة, حيث تزيد بها نسبة المواد الثقيلة وكذلك الخضروات التي تستخدم في زراعتها المبيدات, ولذلك فمن الأفضل أن يقوم بزراعة هذه الخضروات بنفسه من يستطيع إذا ما توافرت له الفرصة لذلك.
- السطح.. ناد اجتماعي وزراعي
ويضيف المهندس محمد أبو السعود: هناك بعض السكان يفضلون زراعة النباتات العطرية ونباتات الزينة, وبعضهم يفضل زهور القطف والزينة, والبعض أيضا يميل لعمل برجولات بحيث يصبح السطح مجلسا يجتمع به سكان العمارة,
بل إن البعض طور المسألة ليقسم مساحة السطح ما بين جزء لزراعة الخضروات وجزء لزراعة النباتات الطبية والعطرية بما فيها نبات الروز ماري والزعتر والبردقوش, وخصص جزءا لوضع ترابيزات ألعاب رياضية لأبناء الأسر القاطنة بالعمارة, وتحول السطح إلي ناد اجتماعي يمارس فيه السكان وأبناؤهم هواياتهم, ويجتمعون عليه في لقاءات اجتماعية وأسرية فأصبح أشبه بالنادي الاجتماعي والرياضي الخاص بالسكان.
- ما يزرع وما لا يزرع فوق الأسطح
وبسؤال المهندس محمد أبو السعود عما يمكن أن يزرع فوق الأسطح من نباتات وأشجار وخضر وما لا يصلح للزراعة فوق الأسطح أجاب قائلا: لا يوجد شيء لا يصلح للزراعة فوق الأسطح.. فكل النباتات والاشجار قابلة للزراعة فوق السطح, بداية من أشجار الفاكهة كالمانجو والليمون والعنب والتفاح والرمان, ولكنها تحتاج إلي نظم خاصة في التربة والتسميد, وهذه النظم نوفرها لمن يريد أيضا,
ولكن يفضل بالنسبة للأشخاص العاديين أن يقوموا بزراعة النباتات الورقية مثل الخس والملوخية والمقدونس والجرجير والكرفس, أو النباتات الطبية مثل البردقوش والزعتر وحصي اللبان, أو زراعة زهور القطف والنباتات العطرية كالريحان والنعناع ومسك الليل وسرو الليمون, وهي نباتات طاردة للحشرات وخاصة الذباب والناموس.
وعن تكلفة الزراعة فوق الأسطح يقول المهندس أبو السعود: حتي لا نصعب الأمور علي الناس.. فنحن دائما نقول إن من يريد أن يستغل المساحة الشاغرة في شرفته أو فوق سطح منزله, فإن الأمر لا يحتاج إلي مبلغ مالي كبير, وحتي نسهل الأمور فإننا ننصح المبتدئين بأن يكتفوا بالزراعة في أوان بلاستيكية أو علب صفيح مثل علب المسلي مثلا.. أو استخدام الأصص الفخارية أو البلاستيكية, وكذلك الزراعة في البراميل المعدنية أو البلاستيكية,
وهي أشياء من الممكن أن توجد في المنزل وغير مستخدمة, وذلك حتي يكتسب الخبرة الكافية, وبعد ذلك يمكن أن يقوم بشراء الترابيزات الخاصة بالزراعة أو نظم الري والزراعة في المواسير, وهذه الأمور كلها يقوم المركز بمساعدته في تصميمها وتصنيعها وفقا لمواصفات خاصة,
ومن الممكن أيضا أن نوفرها له من خلال المركز لو أراد بسعر التكلفة, بالإضافة إلي الدورات التدريبية التي يعقدها المركز بشكل دوري لمن يرغبون في الحصول علي فكرة علمية ومتخصصة قبل البدء في مشروع الزراعة فوق الأسطح, وعادة ما نتلقي طلبات كثيرة من المهتمين بالزراعة,
ونقوم بعقد دورة كاملة لا تستغرق إلا بضعة أيام, يحصل خلالها الدارس علي فكرة عامة عن الزراعة والبيئات المستخدمة فيها, والتسميد والتغذية ومكافحة الأمراض ومواعيد زراعة المحاصيل الدورات الزراعية بالإضافة إلي تدريب عملي.. وكل هذه الخدمات تقدم للمواطنين بأسعار رمزية..
مشيرا إلي أن منظمة الفاو كانت قد دعمت من قبل مثل هذه الدورات وكذلك وزارة الزراعة لنشر فكرة زراعة الأسطح, كمحاولة لتخفيف تأثير ما يسمي بالجزر الدافئة التي تنشأ داخل الكتل السكنية بالمدن الكبيرة وينتج عنها ارتفاع درجة الحرارة بهذه المناطق نتيجة ندرة الغطاء الأخضر وقطع الأشجار بشكل جائر بها وكثرة المباني الاسمنتية..
والتي يشعر بها بشدة سكان هذه المدن, ويلاحظون الفرق الكبير في المناخ بين هذه المناطق داخل المدن وبين المناخ خارج هذه المدن.
في النهاية.. هل لك أن تتخيل أنك ببعض الجهد البسيط.. يمكنك أن تضمن لنفسك طعاما صحيا خاليا من السموم والمبيدات, وتضمن لنفسك دخلا ولو بسيطا قد يؤثر إيجابا في ميزانيتك البسيطة, والأهم من ذلك أن تصبح سيد قرارك بعيدا عن استغلال وسيطرة وجشع التجار وخداع المزارعين ممن يروون طعامنا بمياه الصرف دون أن يهتز لهم جفن أو يشعروا بتأنيب ضمير؟
والأهم من ذلك.. هل لك أن تتخيل أنك تأكل مما زرعت بيديك.. خضارا أو فاكهة طازجة قمت بقطفها بيديك من شجرة تزرعها في البلكونة.. لتتذوق حلاوتها بدون أن تمر علي أيدي زارعيها وحاصديها وبائعيها ومشتريها أيضا؟
والأهم من كل هذا وذاك.. ألا تستحق التجربة أن نخوضها ولو من باب: من يملك قوته.. يملك قراره؟ أو من باب الرغبة في محاربة فساد الضمائر وخراب الذمم؟.