ماذا يعطينا القداس الإلهى؟............

ماذا يعطينا القداس الإلهى؟

لنيافة الأنبا موسى




لاشك أن القداس الإلهى هو ذروة الحياة الروحية، حين تجتمع الجماعة المقدسة، فى بيت الله المدشن، برئاسة الأكليروس، وحضور الملائكة والقديسين، حول جسد الرب ودمه. وهنا تلتحم السماء مع الأرض، فيصير الهيكل مسكنا لرب المجد، وحوله ملائكته وقديسوه.
وكلمة "هيكل" فى القبطية هى piervei أى "المكان الذى صار سماءً" فماذا فى السماء غير الله، والملائكة، والقديسين؟!
لذلك قال الرب: "الذين يبكرون إلىّ يجدوننى" (أم 17:8)، بمعنى أن من يحضر القداس الإلهى مبكراً، سيلتقى بالرب، ويتمتع بحضور السمائيين جميعاً، بالإضافة إلى إحساسه بشركة المؤمنين الذين يصلون معه، ليس فقط فى كنيسته المحلية، بل فى الكنيسة كلها، الممتدة من أقصاء المسكونة إلى أقصائها.

عطايا القداس الإلهى:


هناك عطايا كثيرة ننالها، حينما نشترك فى صلوات القداس الإلهى بالفكر والقلب، وحينما نستمع إلى القراءات المتعددة، وبالأكثر حينما نتناول من جسد الرب ودمه الأقدسين. ومن هذه العطايا نذكر:



1- الثبات فى المسيح :


وهذا ما وعدنا به الرب بفمه الطاهر حينما قال: "من يأكل جسدى ويشرب دمى، يثبت فىّ وأنا فيه" (يو 56:6). ومعنى هذا أن التناول المتكرر، وباستعداد روحى جيد، يثبتنا فى المسيح، ويثبت المسيح فى قلوبنا. وهكذا ننال قوة لانهائية غير محدودة، تدعم قوتنا الضعيفة المحدودة، وننال سكنى المسيح.
ألم يقل لنا: "هأنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتى، وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى معه وهو معى" (رؤ 20:3)؟!
وهكذا يشترك إلهنا غير المحدود، مع ضعفنا المحدود، فنستطيع أن نقاوم فى يوم الشرير. وإن كان قداسة البابا شنوده الثالث يعرّف الإنسان الروحى بأنه الشخص الذى روحه تقود جسده، والروح القدس يقود روحه، يكون التناول هو الوسيلة إلى نوال هذه القوة الروحية، قوة روح المسيح، التى تطهرنا من دنس الجسد والنفس والروح.


2- الشركة مع القديسين :


ففى التناول نحسّ بحضور القديسين معنا فى الكنيسـة، فالكنيسة هى مسكن القديسين، وبيت الملائكة. وكلما نظرنـا إلى حامل الأيقونـات "نجـد السيد المسيح مصلوباً، وحوله السيدة العذراء الطهور، ويوحنا الحبيب". وتحته أيقونة العشاء الربانى حيث التلاميذ القديسين، وعلى الجانب البحرى نجد أم النور حاملة الطفل يسوع، ورؤساء الملائكة غبريال وميخائيل، والشفيع الخاص بالكنيسة. أما على الجانب القبلى فنجد بجوار رب المجد يوحنا المعمدان، وباقة من القديسين، وهذا ما نراه فى الجدران التى حولنا. وفى القبة نجد صورة رب المجد فاتحاً ذراعيه لاستقبالنا، ومظللاً علينا بحنانه الدافق، وحوله الأربعة بشيرين...
إنها "سحابة من الشهود... محيطة بنا" (عب 1:12)... والسحاب مرتفع، وهكذا السمائيون. والسحاب قريب، وهكذا القديسون. والسحاب أبيض، وهكذا نقاوتهم. والسحاب يحمل لنا الخير، وهكذا شفاعتهم. وما أحلى أن يشعر الانسان أنه مسنود بهذه الطغمة الهائلة من الملائكة والقديسين، يتشفعون فى ضعفه ومذلته، أمام الرب الحبيب.



3- الاتحاد مع المؤمنين :


فنحن نتناول دائماً - فى كنيستنا القبطية - من خبزة واحدة، صارت جسداً للسيد المسيح. وكذلك نتناول من كأس واحدة، صارت دماً لرب المجد. وفى هذا يقول معلمنا بولس الرسول: "كأس البركة التى نباركها، أليست هى شركة دم المسيح؟ الخبز الذى نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟ فإننا نحن الكثيرين خبز واحد، جسد واحد، لأننا جميعنا نشترك فى الخبز الواحد" (1كو 16:10،17)، ومهما كـان عــدد المتناوليـن، فنحـن نصلـى علـى قربانة واحدة، يمكـن أن تكون كبيرة، ولكن إحساسنا بوحدة الجسد، يظل إحساساً قوياً، حيث نشترك فى خبزة واحدة، وكأس واحدة.
إن عضويتنا فى جسد المسيح، تعطينا إحساس القوة، فحولنا كثيرون يصلون من أجلنا، ونحن أيضاً نصلى من أجلهم، بإحساس أننا "أعضاء بعضاً لبعض" (رو 5:12).


4- نوال الخلاص والغفران :


إذ يحمل الكاهن الصينية وفيها الجسد المقدس، ويهتف قائلاً: "يعطى عنا خلاصاً، وغفراناً للخطايا..." (القداس الباسيلى).
ولاشك أن الأفخارستيا من أهم الأسرار التى تعطينا الغفران والخلاص. والغفران يخص الماضى، أى أننى حينما أتناول، وبالطبع أكون فى روح التوبة وأميناً فى اعترافاتى، أنال غفراناً لخطاياى، لأن "لنا فيه الفداء، بدمه غفران الخطايا" (أف 7:1، كو 14:1). أما الخلاص فيخص العمر كله، الماضى والحاضر والمستقبل، بمعنى أنه عمل الله فى داخل النفس، ليخلصها من وصمة الخطية والإثم، ومن عبودية إبليس. ذلك لأن من يتناول من جسد الرب ودمه، لابد وأنه مهتم بأركان وركائز الخلاص كلها وهى :
1- الإيمان بالرب يسوع... "لا يهلك كل من يؤمن به" (يو 16:3).
2- الأعمال الصالحة... "إيمان بدون أعمال ميت" (يع 20:2).
3- الأسرار المقدسة... فجميعها تهدف إلى تغيير طبيعتنا. إذاً نتجدد روحياً بالمعمودية، ونولد من بطن الكنيسة، ونصير هيكلاً للروح القدس بالميرون، ونثبت فى المسيح بالتناول، ونعود إلى سيرتنا الأولى بالتوبة والإعتراف، وننال غفراناً عن الخطايا فى سر مسحة المرضى، والمتزوجون يساعدهم سر الزواج فى إقتناء الطهارة والقداسة. أما الكهنوت فهو خادم جميع هذه الأسرار، ويقدم لنا معها التعليم والرعاية والصلوات.
4- تغيير الجسد... وهذا ما سوف يتم فى اليوم الأخير حيث أننا "ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح، الذى سيغيرِّ شكل جسد تواضعنا، ليكون على صورة جسد مجده.." (فى 20:3،21).
ولاشك أن التناول هو عربون لهذا التغيير، حيث به ومن خلاله يتقدس الجسد الإنسانى، ويصير مسكناً للرب.



5- رسالتنا نحو العالم :


إن اتحادنا بالرب، وشركتنا مع القديسين، ووحدتنا مع المؤمنين، وتمتعنا بالغفران والخلاص... هذه العطايا كلها... ليست لنا وحدنا، ولكنها للبشرية كلها... فالرب يسوع يحب العالم كله، وقد جاء لخلاص جميع البشر، وهو يشاء أن "جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1تى 14:2).
ولهذا فالتناول لا يعزلنا عن العالم والمجتمع، بل بالحرى يكلفنا برسالة نقوم بها نحو الكل، وذلك حينما يهتف بنا الأب الكاهن: "لأنه فى كل مرة تأكلون من هذا الخبز، وتشربون من هذه الكأس، تبشرون بموتى، وتعترفون بقيامتى، وتذكروننى إلى أن أجيئ" (القداس الباسيلى). وهذه الفقرات مقتبسة حرفياً من كلمات معلمنا بولس الرسول: "فإنكم كلما أكلتم من هذا الخبز، وشربتم هذه الكأس، تخبرون بموت الرب إلى أن يجئ" (1كو 26:11). وهنا تكون الإرسالية لكل من يتناول، أن يهدى أخبار الخلاص لمن حوله، ويتحدث إليهم عن موت الرب، وفدائه لنا، وقيامته المجيدة، ويستمر كذلك إلى أن يجئ الرب.
إن الكنيسة هى ضمير العالم، والسراج المنير، الذى يقدم للناس نور الكلمة، ورسالة الخلاص، ومحبة الفادى.



6- الحياة الأبدية :


يستمر الأب الكاهن فى هتافـه، حامـلاً الصينيـة المقدسـة، وعليها جسد الـرب، ويقول عنـه: "يعطــى عنا خلاصاً، وغفراناً للخطايا، وحياة أبدية لمن يتناول منه" (القداس الباسيلى). وهنا نصل إلى قمة السعادة، حينما ندرك أننا نأكل "خبز الحياة، النازل من السماء، واهباً حياة للعالم" (يو 48:6-51). وننفذ وصية الرب: "من يأكلنى فهو يحيا بى" (يو 57:6)... ألم يقل لنا بفمه الطاهر: "من يأكل جسدى ويشرب دمى، فله حياة أبدية، وأنا أقيمه فى اليوم الأخير" (يو 54:6)؟!.
إن التناول هو طريق الخلود، وكل من يحرص عليه، ويمارسه باستعداد روحى جيد، إنما يجهز نفسه لأبدية سعيدة بين يدى الله، وفى ملكوته العتيد. أما "من كان بعيداً عن المذبح، فهو محروم من خبز الله"، كما يقول الآباء القديسون... هـذه بعض عطايـا التنـاول، نرجـو أن نحياها ونشبع بهـا، ليكون لنا النصيب الصالح، الذى لن ينزع منا إلى الأبد.