سـمات الديانة المسيحية
ظهرت المسيحية وهى تحمل سمات لم تعهدها ديانة من قبل، فخيّمت بسموها على معاهد العلم والفلسفات وقصور العظماء والأغنياء، وأكواخ الصغار والفقراء.. فبهرت الجميع ببريق تعاليمها، وأثّرت عليهم بعظم مبادئها.. وأصبح لها سمات فريدة ميّزتها وساعدت على انتشارها، لعل أهمها الآتى:
العمومية
إن الديانة المسيحية تستطيع أن تنمو فى كل مكان وزمان، فترقى بجميع الأفراد والطبقات، متمشية معهم فى تطورهم وتجديدهم.
قد تنتشر ديانة لأن شعوباً كثيرة، ترى فيها منهلاًُ عذباً لارتشاف الإثم واستباحة الشر، بل وقد ينتشر دين ما على إثر ثورة قام بها أتباع هذا الدين، فأرغموا أعدائهم بعد تعذيبهم على قبول مبادئ دينهم الجديد، إلا أن مثل هذه الأديان سرعان ما تعجز بعد إنحسار موجة ثوراتها، عن الوقوف أمام عظمة الحق وجلال العدل، فلابد من أن يأتى الوقت الذى فيه تنكمش إلى حيث كانت قبل أن تنتشر.
أما المسيحية فسارت إلى الأمام ولازالت تسير، وها نحن نتساءل: أين الديانة المسيحية من ديانات العصور القديمة؟ كان الإله " زفس " لا يُعرف خارج حدود بلاد الإغريق، ولم يكن " جوبتر" له قيمة خارج أسوار روما، ومن العبث أن يعبد الهندى " براهما " بعيداً عن الهند، لأن هذا ينجس جسمه.. فإذا عاد إلى وطنه يجب أن يتطهر من نجاسته!! أما المسيحية فهى تعلّم بوجود إله محب هو أب لجميع البشر، وتبشر بإنسانية عامة، ووحدة مقدسة، ومحبة سامية.
الروحانية
لم تعرف الديانة القديمة إلا بمعابدها، وطغمات كهنتها، وتعقّد مراسيمها وطقوسها، أما الديانة المسيحية فيهمها الجوهر لا الشكل، وتهتم بالروح لا المادة، بالسمائى لا الأرضى، ولذلك فصلت المسيحية الدولة عن الكنيسة، فأعطت " ما لقيصر لقيصر وما لله لله " . فى العصور القديمة انتشر السحر والتنجيم والخداع والتدليس فى الهياكل الوثنية، فكان من يرغب دراسة الأدب القديم.. ذهب إلى أماكن أُخرى غير المعابد، فهناك فى أروقة أثينا وروما، وعلى مسافة بعيدة من الهياكل والمعابد، كانت حكمة سقراط وأفلاطون وأرسطو.. وهذا ما دعا أحد أفاضل اليونان أن يقول: تهبنى الآلهة الحياة والجاه، أما الروح الهادىء القنوع فهذا من شأن نفسى، أما المسيحية فهى ديانة روح وحق وحياة... والكنائس مقدسة، والتعاليم سامية لأنها إلهية..
التجديد
بظهور المسيحية ظهرت حياة جديدة وتعاليم جديدة، فامتزجت التعاليم الدينية بالمبادئ الأخلاقية والأدبية.. وأخذت من المزيج رحيقاً حلواً استعذبته شعوب الأرض.
ونحن لا ننكر مكانة الفلسفات القديمة ودور رجال الفلسفة فى الأدب والفضيلة، ولكن لم يرضَ المثقف يوماً الاقتراب من الجاهل، ولا الكبير من الصغير، ولا الغنى من الفقير، فالقانون الأدبى اليونانى كان يفرق بين الطبقات، فلا تتعجب إن قرأت عن كلسس Celsus - وهو أحد كبار رجال الأدب القديم - يطعن فى الآداب المسيحية بقسوة، لأنه وجد جماعة المسيحيين تتكون من رجال أُميين وعبيد وعمّال.. ليسوا أهلاً فى نظره للجلوس فى معهد علمى والتكلم باللغة اليونانية.
ولكن شكراً لله الذى جعل من الأُمى الجاهل، والعبد الذليل، والعامل الحقير.. عالماً حراً ماهراً.. فقد زوّد الجميع بقانون أدبى عملى، عجزت عن تطبيقه مجامع العلوم القديمة ومعاهد الفلسفة اليونانية!
ويبدو التجديد واضحاً فى مفهوم الحب! فعند قدماء اليونان والرومان، كان الحب يعنى التمرغ فى حمأة الإثم والتفرغ للشهوات الدنيئة. أما المسيحية فجعلت المحبة جوهر حياتنا، وأساس علاقتنا بالله، ودعامة الحياة الأُسرية.. بعد أن توجتها بالرحمة والتضحية..
التسامح
لم تنتشر المسيحية بقوة السيف والنار، ولم تجبر أحداً على اعتناق مبادئها وتعاليمها، بل انتشرت على أيدى رسل بسطاء، معظمهم صيادين.. ولكنهم قد اشتهروا بالرأفة والرحمة..
قديماً نصح ميسيناس- رجل روما الفذ- الإمبراطور أُغسطس، أن يتسامح فى كل أمر ماعدا الدين، فلا يصرّح لدينانة أجنبية بالدخول فى مدينة روما العظيمة، وفى نبذة تاريخية يقول شيشرون: " يجب ألا يُسمح لأحد أن يتعبد لآلهة لم يعترف بها القانون الرومانى "، ولكن مصالح أولئك وغيرهم قد باءت بالفشل، فظهرت المسيحية دون أن يعترف بها القانون، ولم تكن هناك سلطة بشرية تحميها، فقوة إلهنا الحى، وسمو تعاليمه هى التى جعلت المسيحية تكتسح بتعاليمها معاهد العلم، والمعابد..
وإن كانت الديانات القديمة استرضت الآلهة بالقرابين الحيوانية، فالديانة المسيحية كانت ولازالت قرابينها الثمار القلبية، والأعمال الروحية، فقام المسيحيون يكرسون قلوبهم وأجسادهم وأرواحهم " ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ " (رو1:12).
أبينا الراهب القمص كاراس المحرقي