مفهوم اللذةلا نُنكر أنَّ اللذة شيء عظيم، والسعادة أعظم ما في الوجود، واللذة يسعى إليها الأبرار والأشرار على السواء، ولا عجب أن يتحلّى الأبرار بفضيلة تؤهّلهم إلى سعادتهم، إنَّما العجب أن يواظب الأشرار على خطاياهم بحثاً عن لذاتهم!!
أنت تبحث عن اللذة التي تقود إلى السعادة، وأنا أيضاً بل الجميع يُريدون أن يحيوا سعداء، فما من إنسان يبحث عن الألم إلاَّ المريض! ولكن أين نجد السعادة التي سعى ولازال حتى الآن يسعى إليها الكثيرون؟
الكتب السماوية تُعلن بوضوح أنَّ السعادة في الإيمان بالله والعمل بوصاياه... فنحن خرجنا من الله وستظل أرواحنا هائمة إلى أن نجد راحتنا فيه.
وعلماء النفس يقولون: إنَّها فى اتزان الشخصية، والتوازن بين قدرات الناس ومواهبهم.. ورغباتهم وطموحاتهم..
والمادّيون يقولون: إنَّ السعادة تتولّد عندما يتم إشباع حاجات الإنسان المادية وغرائزه الطبيعية كالطعام والجنس..
والفلسفة البوذية تُعلن أننا لن نجد السعادة في الحياة مصدر الآلام والأحزان، ولا سبيل إليها إلا بدخول (النيرفانا) أو النعيم، الذي لا يدخله إلاَّ من حارب أهواءه المادية، وترك المتع الدنياوية واللذات الجسدية..
والصوفية تقول: إنَّها في الاتصال الروحيّ المستمر بالله، والزهد في الماديات، والترفّع عن أغراض الدنيا الفانية.. فما هى اللذة وما هو مفهوم السعادة التي يسعى إليها الإنسان منذ أن دب بقدمية على هذه الأرض؟!
ربما يقول المرضى أنَّها في الصحة الجيدة، فيرد الأصحاء: لو كانت السعادة في الصحة لكانت الوحوش أسعد المخلوقات!
والفقراء يتوهّمون أنَّها في الغنى، لكن معظم الأغنياء عاشوا وماتوا تعساء، وقد كانت أموالهم سبب تعاستهم..
والفاشلون يقولون أنَّها في النجاح والتفوق، فيُجيبهم الناجحون: ما أبهظ الثمن الذي دفعناه من سعادتنا ثمناً لنجاحنا، لقد نجحنا ماديّاً ولكننا فشلنا روحياً!
والعُزَّاب يعتقدون أنَّها في الزواج والأولاد والدفء العائليّ، فيرد عليهم المتزوجون: إنَّ مشاكلنا أكبر من احتمالنا..
وما أكثر الذين بحثوا عن السعادة في الشهرة والسلطة والنفوذ.. وبعد أن حققوا هدفهم وذاع صيتهم كانت خيبة الأمل، فليس أشق على الإنسان في هذه الحياة من تكبير اسمه!!
إنَّ تعريفات السعادة كثيرة، وكل إنسان يستطيع أن يفهمها بحسب نشأته وتديّنه وثقافته وفكره.. ولكن أقرب تعريف لعقلي هو:
إنَّها ذلك الشعور المتصل بالمحبة والفرح والسلام.. الذي يرافق الإنسان عندما يحيا مع الله، برغم كل ما يعترض مجرى حياته من مشاكل أو أحزان أو آلام..
فنحن جُبلة الله ولن نجد راحتنا إلاَّ فيه، وبدون الله لا حياة، ولا أمل فى حياة ولا نمـو أو اخضرار.. إنَّما يعُم القحط كل حياتنا، وتظل أرض قلوبنا جرداء لا ثمار تنمو فيها، وإن أنبتت لا تنبت سوى الأشواك.
وقد يسعى البشر لتوطيد أواصر المحبّة، فيتقابلون ويتبادلون الهدايا...
ولكن مهما كانت أهمية المحبّة البشرية، فإنَّها لا تهب الناس سعادة كاملة إن لم تكن ثمرة من ثمار المحبة الإلهية، فالإنسان كثيراً ما يجد نفسه وهو مستغرق برمَّته في المحبة البشرية النفسانية، أنَّه لا يزال يعاني من آلام الوحدة، وأنَّه لم ينجح في التغلّب على القلق الناجم عنها، ومن هنا ينصرف عن هذا الحُب البشريّ بضعفه ونقصه لكي ينشد صورة أكمل وأنقى وأفضل ألا وهى: حُب الله ,
إنَّ اللذة في مفهومها في مفهومها البسيط هى حالة فرح، فكل ما تشتهيه وتحصل عليه يُولّد في قلبك لذة.
أمَّا اللذات فهي أنواع كثيرة، فهناك ما يُعرف باللذة الروحية، التي تقود إلى السعادة الحقيقية، ولا يستطيع أن يحصل عليها إنسان، إلاَّ إذا عاش مع الله حياة روحية صادقة وهناك اللذة الجنسية التي تتولّد نتيجة المؤثرات الشهوانية التي تُصادف الإنسان أو يتسبب فيها، سواء عن طريق حواسه أو أفكاره.. هذه اللذة وضعها الله في الإنسان لأجل الإنجاب وإنماء الجنس البشريّ، فإذا انحرف بها تحوّلت من وسيلة فرح إلى سبب خوف وقلق وعذاب ضمير.. فما أعطاه الله للإنسان كأداة للفرح تحوّل إلى أداة للتدمير، وذلك بسبب استخدام عطية الله الحسنة استخداماً سيئاً!
فى بداية القرن الماضي ظهر فرويد العالِم النفسيّ الكبير، فنسب كثير من الأمراض النفسية والعصبيّة والعاطفيّة إلى الكبت الجنسيّ متغاضياً عن العوامل الاجتماعية والثقافية وأساليب التربية الخاطئة.. ولهذا دعا إلى مُمارسة الجنس بحرية، كوسيلة علاجيّة للتخلّص من الأمراض التي تُصيب الإنسان!ولكن لو عاد (فرويد) هذه الأيام - وهو بالطبع لن يعود - لغيّر نظريته مرغماً وبالتالي منهجه الخاطيء في العلاج، ونسب الخوف والقلق والأنانية ومعظم المشاكل التي تعيشها البشرية اليوم ليس إلى الكبت الجنسيّ بل الفجور الجنسيّ!
وإنْ اعترض البعض وقالوا هناك الجنس المأمون الذي لا يضر ولا يؤذي فهم كاذبون ومتوهّمون! أو يُخدّرون ضمائرهم السقيمة! لأنَّ الجنس قد يكون مأموناً طبياً- معقّماً من الجراثيم وخالياً من الوباء ولكنَّه غير مأمون روحيّاً ونفسيّاً بالنسبة لوجع القلب الذي يتسبب فيه، والمشاكل الروحيّة والعقد النفسيّة التي تنتج عنه..وكما قيليغفر لنا خطايانا عندما نقدّم توبة صادقة من أعماق قلوبنا، ولكنَّ الجهاز العصبيّ لا يغفرها قط !! لماذا؟ لِِما سببته الخطية من أمراض كثيرة، قد طبعت بصمتها على أعصابنا وأجسادنا.. جعلت الخاطيء منَّا يُعاني من آلامها مدى الحياة.
يقول القديس أُغسطينوس: لا شك في أنَّك تريد أن تحيا أيامك سعيداً لكنَّك لن تكون سعيداً إن لم تحصل على ما تُحِب، ولن تكون سعيداً إذا نِلتَ ما تحب، وكان هذا المحبوب مُضراً ها نحن نتساءل: هل هناك أشر وأخطر وأضر من لذة الخطية؟
فالخطية كما يراها ذهبي الفم هي الكارثة الوحيدة في العالم ولهذا يقول: ليس في العالم إلاَّ كارثة واحدة ألا وهى: الخطية، فهي المصدر الأوحد لجميـع النكبات، وهى الأُم الولود لجميع الكوارث التي تحل بالبشرية ".
ليقل لنا محبو الخطية وعشاق اللذة الوهمية، الذين يقضون لياليهم بين الجدران المُغلقة المظلمة! متناسين أنَّ عيون السماء تُحدّق إليهم، ونجوم القبة الزرقاء تفضح أعمالهم القذرة: ما هي اللذة التي يتمتّعون بها وهم دائماً في حزن وقلق...؟!
أيَّة لذة تلك التي ثمارها الخوف من الفضيحة والعار والخجل من مواجهة الناس؟! قولوا لنا لماذا تُغلقون عليكم الأبواب وتبتعدون عن أعين الناس إن كنتم بحق على صواب؟!
لقد ارتضى الخطاة أن يعيشوا في الأوكار المُظلمة، يلهون ويعبثون، ويسكرون ويُدخّنون، ويرقصون ويُغنّون، بطريقة هستيرية كالمجانين بحثاً عن لذة جسدية فانية!!
ولكن لا تتعجبوا فالطير يبدو أنَّه يرقص عندما يُذبح!! أتعرفون السبب؟ لأنَّه يتألم!! لقد ش الأعمى الذي يحيا في الكون المُضيء ولكنّه لا يرى ضوءاً ولا شمس الظهيرة، والحق إنَّ الخطية تعمي الخاطيء عن رؤية نور الحياة، لأنَّ الله نور وكل من يحيا بعيـداً عن الله حتماً سيعيش في ظلام حالك، وأيضاً سيموت موتاً روحياً، فموت الجسد هو انفصال الروح عن الجسد وموت الروح هو انفصال الروح عن الله، ألم يقل المسيح: " أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ، مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا (يو25:11).
فكيف يجرؤ إنسان يحيا فيالخطية أن يقول: إنّه حيلهؤلاء مجتمعهم الخاص الذي قد خلقوه لأنفسهم، وارتضوا أن يعيشوا فيه منبوذين ومحتقرين من الآخرين فأي مجتمع هذا الذي يقود إلى الذل والاحتقار.. وأهم سماته الإشباع الجنسيّ والفوضى الأخلاقية...؟!!نَّه كهف ضيق من كهوف الأودية الخالية من الفضيلة، فيه يُرددون صدى أصوات لا يفهمون معناها لتُصبح حياتهم بين شتاء قارص غطَّاهم بأوحاله! وصيف ألهب بحرارته عظامهم!أمَّا وصايا الله فلا يعرفون عنها شيئاً، ولا يعلمون متى يكون الإنسان خاطئاً!! فيعيشون بالجهل ويستوي أمامهم المُجرم والبريء، والبار والشرير،وهذا ليس بغريب لأنَّهم ينظرون بعين الشهوة، فمن على السطوح وفى الأروقة وبين الأزقة لا يرون سوى أشباح المفاسد وخيالات الانحطاط!
انظروا إليهم فلا تجدوا سوى أُناس عديمي الإرادة، لا كلام إيجابيّ في أفواههم إنَّما كلامهم عن الجنس والمتع الجسدية! ولا نية تعمير أو إصلاح في عقولهم مع أنَّ فيهم من يملك الملايين! حتى الشعور الإنسانيّ والعطف على الفقراء لا تجد في قلوبهم! وهذا ليس بغريب لأنَّ:الشهوة عمياء لا ترى دموع المحتاجين وصماء لا تسمع أنين الفقراء والمعوزين إنَّها لا ترى ولا تسمع إلاَّ ما يُثيرها فقط!!
كل العبارات التي ابتدعها الخطاة مثل: سعادة، متعة، لذة، نشوة نّي لا أظن أنَّ من يتحدى قانون الطهارة الإلهيّ يمكن أن يحيا سعيداً، يكفي أنَّ الخطية تفقد الإنسان سلامه لَيْسَ سَلاَمٌ قَالَ إِلَهِي لِلأَشْرَارَِ (إش21:57)، فهل يمكن لإنسان أن يحيا سعيداً بدون سلام؟!
حقاً إنَّ النشاط الجنسيّ هو غريزة قد وضعها الله في الإنسان لا يمكن إغفالها أو القضاء عليها، ولكن في العلاقة الجسدية الطبيعية بين الزوج وزوجته تنطلق الطاقة الجنسية لكي تربط بينهما بقوة مغناطيسية فيغمرهما إحساس عميق بالاستقرار والرضى والشبع والراحة.
أمَّا في حالة الزنى فإنَّ العلاقة الجنسية يصاحبها أيضاً متعة حسّيّة، كما قال سليمان الحكيم اَلشَّهْـوَةُ الْحَاصِلَةُ تَلُذُّ النَّفْسَ (أم19:13) إلاَّ أنَّها تكون ممزوجة بالقلق والتوتر والإحساس المرير بالذنب... مما يجعلها تفتقر إلي عمق الاستقرار والشبع الحقيقيّ! وأفضل ما يمكن أن يفعله البشر تجاهليس هو إشباعها بطريقة غير شرعية، وإنَّما بتحويلها إلي أنشطة مفيدةللإنسان وبنَّاءة للمجتمع، وهذا هو ما يُعرَفْ في علم النفس بالتساميّ.
والحق إنَّ فقراء ومرضى ومعوَّقين كثيرين، ضبطوا شهواتهم وهذَّبوا غرائزهم.. فعاشوا سعداء وأفادوا البشرية بعد أن صاروا قدوة.. والعظمة من كل ناحية، ولكنهم لم يُقدّموا للبشرية سوى صورة مُقززة للفساد والمتع الجسدية، ولذلك عاشوا في القصور كالأفاعي السوداء المتقلبة في كهوف الجحيم.
لقد صارت القصور أشبه بصحراء الموت، يُدفنون أحياء بين رمالها، أعني أموالهم وذهبهم وفضتهم وكل كنوزهم الفانية.. ومن هنا جاءت العبارة القائلةلا راحة لرأس تحت تاج ملوث بالخطيةفإذا اتّخذتَ اللذة هدفاً تسع إلى تحقيقه بكافة الوسائل وشتى الطرق... فتأكد أن حياتك على الأرض ستظل مثقّلة بالآلام، مليئة بالمخاوف، الشهوات تفسدها والشكوك تستعبدها، فالخطية هى نبع الأحزان بما تتركه في الضمير من توبيخ، وما تتركه في النفس من أثرها الدنس، وها نحن نتساءل:
ما قيمة لحياة تظل صفحة ملوثة في كتاب الوجود، لم يُكتَبْ فيها كلمة فرح أو عزاء أو سلام..؟! وماذا ينتفع الإنسان لو أتى من الذنوب ما يجلب عليه سخط إلى آخر الدهور؟!
يقول مارَ أفرام السريانيّ: اهرب من اللذة فإنَّ أثمارها الخزي، فقبل اللذة شهوة وبعد اللذة حزن، كرر الافتكار في أنَّ اللذة يعقبها حزن وخزي .
إن أردتَ أن تعرف هل فى الخطية لذة أم لا؟ فاعمل بمشورتي، واسأل الذين لبسوا الزنى كرداء، أو أدمنوا المسكرات، أو احترفوا السرقات.. سلهم وهم على سرير المرض مطروحون، أو في سجون الحبس مُقيَّدون، أو فى الشوارع على الأرصفة مُلْقَوْنَولماذا تسأل الآخرين بل إسألْ نفسك وخاطبْ كل عضو من أعضائك قد تدنس بوحل الخطية وقل له: لقد تلذذت وتمتعتَ كثيراً.. فما هو الربح الذي ربحتَهُ من الخطية؟
أعتقد أنَّ الإجابة على مثل هذا السؤال واضحة ألا وهى: لا سعادة نلتُها ولا لذة قد ربحتُها وأنا أحيا فى الخطية إن كان لها أفراح!صدقوني لو فُتحتْ قلوب الخطاة، أو كُشفتْ أفكارهم على الملأ.. ورأينا ما قد ترسّب في أعماقها من نتائج الخطية لصرخنا قائلين: مجنون من أضاع حياته فى أوهام الخطية.
-----------
أبينا الراهب كاراس المحرقي