أمير يترك قصره ويرعى خنازيرفي حديقة مترامية الأطراف، تتلاقى في جوانبها الأشجار وتتعانق الأغصان، وتُعطر فضاءها رائحة الزهور، كان يوجد قصر بديع فسيح، طلى الحب جدرانه، وغطى الحنان بلاطه، وكست تيجان الورود أعمدته في هذا المكان المعبق بأرواح الملائكة الحائمة في الفضاء، عاش الابن الضال ينظر الرياحين وهى تتمايل مرنمة أناشيد سليمان والعصافير مغردة مزامير داود..
ولكن عطر الربيع لا يدوم فقد أتى الخريف بزوابعه، فالفتى الغض الذى لم يذق بعد خمر الحياة ولا خلها يحرك جناحيه ليطير، سابحاً في فضاء واسع ملبد بالغيوم، وفى يوم قضى النهار أنفاسه بين تلك الحدائق، وغابت الشمس تاركة على الأشجار قبلة صفراء، جلس الابن وحده يتخيل مناظر هى في الحقيقة أشباح، فشعر بعاطفة غريبة بثتها أرواح الشر في قلبه، الذى اختلت نبضاته، ثم أخذت تنمو إلى أن لفت بذيلها السام الطويل عنقه كانت هذه الفكـرة الخبيثة الجهنمية أول فصـل فى رواية الابـن الضـال مع الخطيئة!
لقد ترك الابن قصر أبيه ليحيا كعصفور ميت فى زاوية قفص حبكت ضلوعه يد شيطان ماهر، وينطلق الابن مسرعاً فى طريق الموت، كما لو كانت أجنحة شيطانية قد حملته إلى بقعة انبثقت من الجحيم، فعاش بين قوم عراة من الفضيلة، فى مكان لا تظهر فيه الشمس ولا يطلع فيه القمر، بل يتشح بظلام وظلام، فبانت تلك الخرائب كأنها جبار يهزأ .
فى تلك اللحظات شعر وكأن يد حريرية تبسط ثوبها على رأسه العارية لتغطى عاره، فنظر إلى السماء نظرة نائم أيقظه شعاع الشمس، فرأى طيف أبيه وتذكر عندما كان يسير معه والعفاف ثالثهما، والحب صديقهما، والقمر رقيبهما، ويعود الابن ويعانقه أبوه ويقبّل عينيه راشفة الدمع، وقال بصوت ألطف من نغمه الناي: إبني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد
وهكذا استيقظت الروح النائمة لأن فجر التوبة قد لاح ولم يعد أحد يسكب قطرة من مرارة الحزن، أو يذرف دمعة من دموع اليأس، لأن نسيم الصباح قد مر لتعود الحياة للزهور الحزينة النائمة!
لقد ذهب إلى كورة بعيدة ليشرب كأس الموت، فلمت الشمس وشاحها الذهبي، وجلست أسرته تذرف الدمع على طين داسته الأقدام لكنه عاد فعادت الشمس هى الأخرى تُشرق بأشعتها المذهبة لتعيد إليهم الحياة، ومشى الحبيبان – الابن وأبوه – يتعانقان بين الورود والأشجار، وقد علق كل منهما على عنقه قلادة من ذهب قد كُتب عليها:
لقد جمعنا الحب فمن يفرقنا!
القمص كاراس المحرقي