خدعوهم فقالوا (138) تصريح كنيسة! عادل جندى
في 19 فبراير 2010 قدمت مصر أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف تقريرها ( إضغط هنا لمُشاهدته) ضمن آلية «الاستعراض الدوري الشامل» ـ الدورة السابعة. والتقرير مودع كوثيقة بالمجلس. وقد قام د. مفيد شهاب، وزير الشئون القانونية وشئون مجلسي الشعب والشورى، الذي سافر إلى جنيف على رأس وفد حكومي كبير، بعرضه أمام المجلس. يستحق التقرير الكثير من التعليق، ولكننا سنقتصر هنا على ما ورد تحت عنوان فرعي «حرية الدين والاعتقاد»، (ص 12ـ13) حيث نجد الفقرة التالية: [تنص المادة (46) من الدستور على أن: «تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية». ولا توجد في القوانين المصرية نصوص تحد من حرية الاعتقاد أو تحل دون تغيير الفرد لديانته. (...) ويرتبط بحرية الاعتقاد الديني حرية إقامة الشعائر الدينية، وفي هذا الخصوص تجدر الإشارة إلى صدور قرارات جمهورية بالترخيص ببناء 138 كنيسة منذ عام 2005 وحتى منتصف يوليو 2009، كما صدر قرار جمهوري عام 2005 بتفويض المحافظين كل في دائرة اختصاصه في الترخيص للطوائف الدينية المسيحية بهدم كنيسة وبإقامة كنيسة محلها في ذات الموضع، أو بإقامة بناء أو إجراء تعديلات أو توسيعات في كنيسة قائمة (...). وجدير بالذكر كذلك أن إقامة المساجد يتم وفقا لخطة تضعها وزارة الأوقاف طبقا للقوانين والقرارات المنظمة لعملها، وهناك خطة تنفذها الوزارة لضم كافة المساجد الأهلية إليها، مما يعني أن إقامة المساجد في مصر ليس متحررا من قيود التراخيص. وفي جميع الأحوال فقد تقدم المجلس القمي المصري لحقوق الإنسان بمشروع قانون موحد لبناء وترميم دور العبادة، وجاري النظر فيه لتقدير مدي ملاءمة تبني مثل هذا القانون في المستقبل].
***
ومع اقتناعنا التام بأن حكومتنا الرشيدة والذكية والمنصفة والعادلة «تقول الصدق دائما» ما لا يثبت العكس، إلا أننا حاولنا التدقيق في بعض ما ذكرته الوثيقة الرسمية... فقط من باب اطمئنان النفس وليس أكثر. وهذا بعض مما وجدناه:
أولاً:
يقول التقرير أن عدد القرارات الصادرة من يناير 2005 حتى منتصف 2009 يوليو (138) قرارا. وللتأكد من هذه المعلومة، قمنا بمراجعة دقيقة لكافة أعداد «الجريدة الرسمية» للسنوات 2005 حتى 2007 إضافة إلى ما ورد بتقارير «الحالة الدينية»، الصادرة عن مركز «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية»، فيما يتعلق بـعامي 2008 و 2009 وهي عموما تقارير موثوق بها. وتحت أيدينا جدول مفصل بالمعلومات المستخلصة. نتيجة هذه المراجعة تبين صدور (122) قرارا فقط (أو 126 قرارا حتى نهاية 2009).
هناك إذن فارق (16) قرارا بين الرقم الذي يذكره التقرير الحكومي وبين ما توصلنا إليه.
ثانياً:
هذا الفارق في العدد بالطبع لا يفسد للود قضية. لكن الذي يفسد الود والقضية معا هو أن القرارات الجمهورية المذكورة لم تكن كلها «بالترخيص ببناء كنائس» كما يزعم التقرير، بل لم يكن بينها سوى (37) قرارا فقط، أي أقل من ثلث الإجمالي. وتوزيعها الزمني هو (13) في 2005 ـ و (18) في 2006 ـ و (6) في 2007 و (صفر) في 2008 و (صفر) في 2009. أما توزيع بين الطوائف فهو (22) للأرثوذكس ـ الذين يمثلون حوالي 90? من المسيحيين المصريين ـ و (10) للإنجيليين بطوائفهم المختلفة و (5) للكاثوليك.
أما باقي القرارات الجمهورية فتوزيعها كالتالي:
ـ (55) قرارا تتعلق بـ «التصريح بكنائس قائمة بالفعل» (طبقا لنصوص القرارات الجمهورية)، أي بهدف تقنين أوضاع كنائس أنشئت في الماضي. وتوزيعها بين الطوائف هو (19) للأرثوذكس و (29) للإنجيليين بطوائفهم و (7) للكاثوليك.
ـ (34) قرارا تتعلق بترميم وإصلاح كنيسة، مثل «ترميم سور ودورات مياه» (البلامون ـ بني سويف) أو «ترميم شبكة المياه» (الجبل الشرقي ـ سوهاج) أو «إنشاء مطبخ وملحقات» (قرية الحمام ـ بني سويف) أو «إصلاح سقف» (صدفا ـ أسيوط) أو إنشاء «قلالي رهبان» بدير مار مينا (جبل أبنوب ـ أسيوط)، أو بناء دار خدمات أو مستشفى خيري أو هدم وإعادة بناء كنيسة في نفس الموقع ونفس المساحة. لكن إحقاقا للحق فمعظم هذه القرارات (31) كان في 2005 أي قبل أن يصدر في ديسمبر من تلك السنة القرار الجمهوري الخاص «بتفويض المحافظين» سلطة هذه النوعية من التصاريح.
ثالثاً:
استباقا لما يمكن أن ينتاب مستمعا من أعضاء مجلس حقوق الإنسان ـ حتى لو كان من عينة «الخواجة بيجو» (وهو ـ لمن لا يعرف ـ نجم «ساعة لقلبك» الذي كان يبتلع بسهولة فشرات شريكه «أبو لمعة الأصلي») من شكوك وتساؤلات عن ضرورة إصدار «قرارات جمهورية» لبناء الكنائس، بينما المادة 46 من الدستور تقول «تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشرائع الدينية»، وإذا ما كانت هناك تصاريح مماثلة عند بناء المساجد، تقول الوثيقة المصرية المحترمة: [جدير بالذكر كذلك أن إقامة المساجد يتم وفقا لخطة تضعها وزارة الأوقاف طبقا للقوانين والقرارات المنظمة لعملها، وهناك خطة تنفذها الوزارة لضم كافة المساجد الأهلية إليها، مما يعني أن إقامة المساجد في مصر ليس متحررا من قيود التراخيص].
وطبعا لا توجد علاقة منطقية أو غير منطقية بين «خطة وزارة الأوقاف» في ضم المساجد الأهلية وبين الحصول على «تراخيص» عند بناء مسجد سواء كان حكوميا أو أهليا.
ومقارنة أوضاع الكنائس بالمساجد من هذه الناحية «فشرة» لم يكن السيد أبو لمعة ـ حتى في قمة مجده ـ ليجرؤ على التفوه بمثلها («كده همايوني وكده مش همايوني»). فليس فقط لا يحتاج المسجد لترخيص، بل إن مجرد تحويل «بدروم» عمارة إلى مصلى، بميكروفون أو بدونه، ينشأ عنه إعفاء تلقائي من «العوائد» ومصاريف الكهرباء. ولا يوجد في مصر مبنى حكومي أو مدرسة أو هيئة بدون وجود «مصلى» به.
ولا شك أن حكومتنا تعرف أن بأرض الكنانية ما يفوق تسعمائة ألف مصلى وزاوية ـ إضافة للمساجد التي ضمت وزارة الأوقاف منها مائة وأربعة آلاف تحت إشرافها حتى الآن والباقي أهلي.
وبالمناسبة، وفي نفس أرض الكنانة، كانت أجهزة الأمن قد ألقت القبض في 27 أكتوبر 2009 على المواطن موريس سلامة (مدرس)، من قرية دير سمالوط، بتهمة «الصلاة داخل منزله بحضور رجل دين مسيحي بدون تصريح» وحررت له المحضر 8651 حيث أنه أقام صلاة ذكرى سنوية لوفاة عمه حضرها أعضاء العائلة، وذلك علما بأنه لا توجد كنيسة بالقرية. وقد أخذت عليه السلطات تعهدا بعدم اقتراف مثل هذه الأمور مستقبلا وعينت حراسة على المنزل للتأكد.
منها لله هكذا حكومة!
رابعاً: إدراكا من مؤلف التقرير صعوبة ابتلاع ما يقول، نجده يسارع بالقول [وفي جميع الأحوال فقد تقدم المجلس القومي المصري لحقوق الإنسان بمشروع قانون موحد لبناء وترميم دور العبادة، وجاري النظر فيه لتقدير مدي ملاءمة تبني مثل هذا القانون في المستقبل].
إذن هناك «مشروع قانون»؟! بل إنه، طبقا لما صرح به د. أحمد كمال أبو المجد ـ النائب السابق لرئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان (جريدة «وطني» 28 فبراير)، فقد تم التقدم به لمجلس الشعب. لكن من ناحيته، ينكر رئيس مجلس الشعب تماما وجود أي أثر لمشروع كهذا!!
وفي حوار طريف جرى في مجلس الشورى بجلسة 7 فبراير، تساءل د. رفعت السعيد، رئيس حزب التجمع، «لماذا لم يصدر قانون لبناء الكنائس فى ظل وجود أزمة حقيقية للوحدة الوطنية»، فرد الوزير شهاب قائلا «أن هناك من يحاول تأكيد على وجود عوائق لبناء الكنائس، ويجب ألا ننساق وراء هذه الشائعات» (كذا!)، مشيراً إلى وجود قانون منظم لبنائها منذ عهد محمد على.? ?وعلق السعيد قائلاً: «إذا كان يُرضى الحكومة أن يكون القانون المنظم لبناء الكنائس موجود منذ أيام محمد على.. فمنها لله»، وأضاف: «أنا لم أطلب شيئاً أكثر من العدل والديمقراطية والحرية». حقا، منها لله حكومتنا هذه!
[ننتهز الفرصة هنا (من باب الدقة فقط) لتصويب معلومة: «الخطاب الموشح بالخط الهمايوني» للسلطان العثماني عبد المجيد لم يصدر في عهد محمد علي، كما يقول الوزير شهاب، بل أيام الوالي محمد سعيد باشا في 18 فبراير 1856 (أي ـ من محاسن الصدف ـ قبل 154 سنة بالضبط من يوم إلقاء بيان مجلس حقوق الإنسان!)].؟
وتمادىيا في التفكه يوضح السيد الوزير في رده أمام مجلس الشورى «أن تنظيم بناء الكنائس سيتم وفقا لتنظيم الخط الهمايونى... كما أن تنظيم بناء المساجد يرجع لمئات السنين وهذا لا يعيب التشريع المصرى إذ يبين لنا أن مصر دولة ضاربة فى التاريخ وهى تقدس الأديان وتضع تنظيمات لبناء دور العبادة».??
لا يحتاج هذا الكلام المثير للغثيان إلى تعليق غير التنويه إلى أنه من سخرية القدر قد جرت في نفس الجلسة مناقشات لموضوعات أخرى، من بينها ما أكده أكده المستشار رجاء العربى رئيس لجنة الشئون الدستورية والتشريعية من «أهمية مراجعة العديد من القوانين التى مضى على صدورها أكثر من عشرين عاماً، وتحديثها لتتواكب مع التطورات».
الوله بالهمايوني!
خامساً: من اللافت للنظر أن الدولة على لسان كبار مسئوليها أصبحت فجأة تتمسك بأهداب «الهمايوني» الذي كانوا ينكرون تماما في الماضي مجرد استمرار وجوده (مثلا يقول د. مصطفى الفقي «أن ما سمي بـ الخط الهمايوني قد تم رفضه ودفنه في ذمة التاريخ منذ سنوات ـ الأهرام 14يوليو 2009).
وقد بلغ الأمر بدولتنا العتيدة والعنيدة إلى الإصرار على إصدار (55) قرارا جمهوريا منذ 2006 لتقنين أوضاع «كنائس قائمة بالفعل» (كما ذكرنا أعلاه)، بنيت خلال النصف قرن السابق لعام 1971 عندما كانت الدولة قد تجاهلت «الخط الهمايوني» وتوابعه إلى درجة إسقاطه. (وكما نعرف مثلا، فإن الكاتدرائية المرقسية بالعباسية ـ وهي مقر رئاسة الكنيسة ـ بنيت بدون قرار جمهوري، بل وساهمت الدولة في مصاريف إنشائها وحضر جمال عبد الناصر حفل افتتاحها).
الحكاية ببساطة هي أن الدولة الساداتية ـ المباركية قد أعادت الهمايوني للحياة تمسكا حرفيا منها بالقاعدة الفقهية التي تلزم أهل الذمة «ألا يُحدثوا ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ?ولا يجددوا ما خُرب» (إلا بموافقة ولي الأمر). ولذا نجد أن قرار سنة 2005 يتحدث عن «تفويض»، وليس «نقل» سلطة إصدار تصاريح الترميم إلى المحافظين. أي إن «وليّ الأمر» يفوّض «ولاة الأقاليم» السلطة التي يملكها وحده !!
***
المشكلة إذن أعمق بكثير من «أعداد» الكنائس، وهل ما هو قائم منها أو ما يُصرّح ببنائه كاف للاحتياجات، (والإجابة بالقطع «لا»)، فالمشكلة الحقيقية تتعلق بالمبدأ. وهل هناك شك أن الدولة ـ في «العصر الذهبي الثاني للأقباط» ـ تصر على على الإمعان في إذلالهم لتثبت للجميع أنها أكثر تطرفا من الإسلاميين والمتأسلمين؟