الفكر بين الشقاء والسعادة
إنَّ الإنسان كائن مُفكّر ولهذا السبب عينه قد يشقى أو يسعد، فما يملكه من وعي وخيال يقوده إلى لحظات سامية من السعادة، خاصة إن كان يصلى أو يتأمل॥ لكنَّ هذا الوعي ذاته هو الذي يضعه أمام العدم، ويجعله يدرك حقيقة فنائه، والخيال يقوده إلى الجولان هنا وهنا في أشياء فاسدة، ولهذا كثيراً ما يقترن الفكر البشريّ بمشاعر الضيق والخوف॥ وإن كان البعض قد سموا بأفكارهم نحو الله، وكرَّسوا حياتهم لخدمته فهؤلاء قلة।
ولو نظرنا إلى طبيعة الحياة، لوجدنا أنَّها تتذبذب بين قطبي اللذة والألم، هنا تظهر إيجابية التفكير، عندما يقود الإنسان إلى الفرح!
وما هو الفرح؟ أليس تخفيف حِِدة الألم! أمَّا إذا استغرق الإنسان في تأملاته النرجسية، مستسلماً لأفكاره العنكبوتية، فإنَّه لن يرى
في النهاية سوى أشباح الماضي من صور وذكريات॥ والحق إنَّ فكر الإنسان كثيراً ما يقوده إلى الشقاء، عندما يتأمّل بشده ما يعترض حياته من أحداث مؤلمة،
ويُحاسب نفسه بقسوة شديدة على هفوات لا قيمة لها، ويحسب لكل شيء حسابه بطريقة مبالغ فيها॥إنَّها وسوسة ربَّما يكون
صاحبها قد ورثها أو أصابته في مرحلة مبكرة من حياته। نعترف بأنَّ التفكير السلبيّ المستمر في معنى الحياة وغاية وجودنا॥
كثيراً ما يصرف الإنسان عن حياة العمل الجاد،من أجل الاستغراق في سيل من التأملات الفكرية، والأفضل أن يحيا الإنسان الحياة
بدل من أن يسعى لفهمها بصورة مطلقة وهو كائن محدود، فكيف لمن يعرف سوى القليل عن ذاته، يسعى لمعرفة كاملة عن الله والكون والملائكة
أعتقد أنَّ أتعس الناس هو ذلك الإنسان الذي ويحمّل نفسه سيلاً من الأفكار، عن الغيبيات ويُقحم عقله بما يفوق قدراته، ويقترب منه
في التعاسة من يراقب غيره ويدرس ميولهم ودوافعهم॥ فمثل هذا لا ينعم بحياة طبيعية تلقائية، وكثراً ما تكون حياته حافلة بشتى مظاهر التناقض والتصنع॥
والواقع أنَّ " أفكار البشر ذات أحجام " (حكمة14:9)، فإذا حاول الإنسان أن يتخطى السياج الذي وضعه الله فيه، فإنَّه سيجد
نفسه بإزاء معضلات، يستحيل على أيّ فكر محدود أن يعرف حلها، وها نحن نتساءل: كيف لإنسان أن يُفكّر بعقل محدود في الله
غير المحدود؟! هل يمكن لكائن ماديّ أن يرى الروح؟!
هناك حقيقة ندركها ألا وهى: إنَّ كل من يسعى جاهداً لمعرفة أسرار الوجود، وينفذ بعينية إلى الأبدية! لابد من أن يجد نفسه بإز
ألغاز يستحيل لأيّ فكر محدود أن يعرف أسرارها، وهكذا يعود من جولاته الفكرية خائباً لأنَّه فكَّر بطريقة خاطئة! وقد تصل قيود الفكر إلى الإذلال، وذلك عندما يضل الإنسان ويسقط في عبادة الطبيعٍة أو الأصنام أو البشر! وهل نُنكر أنَّ عصور قديمة مضت كان فيها
يعبد الإنسان وثن اسمه الجمال! وما هو ذلك الجمال سوى الشمس والقمر والنجوم والأشجار والبحار
॥ الموجودة في الطبيعة!وقد يطيع الإنسان العالم فيخضع لمعتقداته، وتتقيّد أفكاره بالعادات والتقاليد السائدة، ويتولّد لديه اعتقاد بأنَّ سعادته لن تتحقق إلاَّ إذا حصل على رغباته العالمية! وهنا نتساءل: أين الله؟ ليس له مكان في الخطة؟! ولأنَّ فكره قد صار مُطابقاً لأفكار العالم في حين أنَّ العالم " قَدْ وُضِعَ فِي الشِّرِّير" (1يو19:5)، لذلك نجد أنَّ الإنسان يجلب لنفسه الشقاء، بسبب عدم استخدام العقل - عطية الله الصالحة - بصورة إيجابية।ويستطيع الجسد أن يأسر العقل ويتحكّم في الفكر، عندما يخضع الإنسان لسلطان غرائزه ويستجيب لنداء شهواته॥ فيصير العقلمهتماً بالجسد وشهواته، ويبدأ الفكر في الجولان بحثاً عن الخطية، ويبتعد تلقائياً عن الله " لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ لِلَّهِ॥
وَالَّذِينَ هُمْ فِي الْجَسَدِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا اللهَ " (رو8: 7)।
أمَّا الشيطان فيستطيع أن يصل بسهولة إلى أذهاننا، ليغرس فينا أفكار شك وتجديف ونجاسة॥ وكثير من أبناء الله ينزعجون من
هذه الأفكار الخبيثة، وأكثرهم يتساءلون: كيف نحيا مع الله ونعمل بوصاياه॥ ومثل تلك الأفكار تتسرب إلى عقولنا؟! ولكنَّها الثنائية تلك الضريبة الباهظة التي ندفعها بعد السقوط حتى نهاية حياتنا!
ومن الملاحظ أنَّ هناك صوراً كثيرة من صور التفكير السلبيّ، ومنها استرجاع الذكريات القديمة رغم ما فيها من جروح وضعفات وعثرات॥! وننسى أنَّ مثل هذه الذكريات الباهتة ذخيرة حيّة تقتلنا، أو هى قيد يحد من حركتنا في كل من الحاضروالمستقبل نُنكر أنَّ النفخ في الرماد قد يؤذي العيون؟أليس أفضل لنا أن نجعله يذهب مع الريح؟
أبينا الراهب كاراس المحرقي