مستقبل مصر وثنائية الدين والسياسة
حينما أعلن مبارك تخليه عن السلطة في 11 فبراير 2011، ربما قد سقطت عائلة مبارك و تم الإجهاز على الأحلام غير مشروعة لها، ولكن سقوط تلك العائلة وحدها يحمل أموراً شديدة الغرابة، فهناك كيانات سياسية كانت تعيش على نظام مبارك، ولاتزال تمارس نفس أدوارها مع بعض الاختلافات البسيطة.
من هذه الكيانات السياسية الواجب سقوطها ما تم الاصطلاح على تسميتها أثناء نظام حكم مبارك بالمعارضة، تلك الكيانات التي كانت تقتات على أخطاء أو خطايا نظام مبارك الكثيرة خلال فترة حكمه ولاتزال حتى يومنا هذا تقتات على جثة نظام مبارك في مفارقة غريبة يمكن تسميتها متلازمة المعارضة المصرية، حينما كان يخرج صفوت الشريف ناعتاً المعارضة المصرية بأنها " معارضة من أجل المعارضة"، كانت عبارة تثير استياء غالبية المصريين، ولكن مع الأسف الشديد تحتمل الصواب. فمعارضة الأمس هي أغلبية اليوم ( أغلبية تعني في قاموس السياسة المصرية الحالية مغالبة)، وهي اليوم تدير الوطن بمنطق المعارضة السابقة.
فأحياناً، تقتات على جثمان نظام سقط، وغالبية الأحيان تقوم باستنساخ النظام السياسي في الحزب الوطني المنحل. ربما لكون تلك المعارضة مفتقدة الرؤية للمستقبل. فلم نرى خلال الأعوام الثلاثين الماضية برامج تنموية طموحة للنهوض بالأمة، ودعم الممارسة الديمقراطية.
فأغلبية اليوم تعاني نفس أمراض الأمس. وفي هذه الحالة، فإن التجريب هو الآلية الوحيدة المتاحة، وهى مخاطرة غير مأمونة العواقب، وتاريخ مصر الحديث يحمل الكثير من المآسي والآلام كنتائج لنظرية التجريب.
إن التعاطي مع الواقع المصري، من منظور الحزب الوطني وانعدام الرؤى والأهداف السياسية طويلة المدى، يجعل الفوضى هي النتيجة المباشرة، وربما كان الحزب الوطني يمتلك أدوات لا تمتلكها أغلبية اليوم أجلت الفوضى. والغريب أن أغلبية اليوم تسعى جاهدة للتحصل على نفس الأدوات والاستحواذ على كافة المواقع والمناصب، وتجفيف منابع الكفاءات في مصر مرة أخرى، مع استمرار ذات الصراع الدارويني الذي أسقط نظام مبارك العائلي، وقد يكون نفسه الذي سيسقط نظام الأغلبية الحالي.
فاستنساخ نموذج الحزب الوطني سياسياً يعني إفلاس الأغلبية المزعومة، ونعود إلى النقطة المفصلية، وهي أن سقوط نظام مبارك كان يستوجب معه إسقاط كافة معارضيه. فخلال الأعوام الثلاثين، لم يقدموا فرادى أو مجتمعين أي انجازات سياسية يمكن للمواطن تقديرها، فكل إنجازاتهم كانت ادعاء البطولة الوهمية، ثم الخنوع أمام نظام كرهه المصريون وقاموا بخلعه.
بالأمس، لم تجف دموعهم ولاتزال نسمع صدى أنين وآهات ولطم الخدود والبكاء والصراخ وشق الجيوب من أفعال نظام مبارك الذي اعتقل منتسبيهم، وقام بإغلاق بعض الصحف، وتجفيف منابع التمويل لبعض المعارضين، واغتيال بعضهم معنوياً والتنكيل بهم، ومن هم كذلك من المستحيل أن يقدموا رؤى مستقبلية، فهم يعانون من التوقف.
فمبررهم واحد هو أن النظام السابق اغتال مصر، وبالطبع النتائج ستكون كارثية وعبثية. إننا نقف في منطقة بين الغول والعنقاء، فكلاهما أسطوري، وكلاهما ليس له علاقة بالواقع. فنظام مبارك هو الغول صاحب نظرية القبضة الحديدية، والأغلبية الإسلامية الراديكالية هي العنقاء. إننا نعيش أوهاماً سياسية، فلا منطقية لما حدث خلال الأعوام الثلاثين من عهد مبارك. وكذلك فإن ما يحدث الآن لا يمت للمنطق بصلة، كل ما نتمناه أن نعبر عصر العنقاء ومصر الواهنة الجريحة لم يتم بتر أطراف منها.
هي الحقيقة المؤلمة، فأغلبية اليوم تعاني تخبطا واضحا. ففكرة الاستحواذ على كافة المناصب ومصادرة مصر هي نفس منطق الحزب الوطني الذي اكتسب عداوة شعب بأكمله، فأسقطه إلى الأبد.
لماذا لم يتم إسقاط المعارضة التقليدية المصاحبة لنظام مبارك؟ والمقصود بها أحزاب يسارية، وليبرالية، وجماعات راديكالية، لم تقدم أية انجازات، بل إنها فقط مدارس كلامية تعتمد على الخطابة والإنشاء أسلوباً ومنهجاً كالحزب الوطني المنحل. إن التحدي الأهم للمصريين الآن هو محاولة إسقاط تلك المعارضة من الحسابات تماماً، ولكنها مهمة ليست بالسهلة.
نعم، إن النظر للأمور لا ينبغي أن يخضع للمنطق الشخصي، ولكن ألم نلاحظ أن الأنظمة المختلفة المتعاقبة منذ عهد الملك فاروق، وصولاً إلى الرئيس السابق مبارك، كانت نظرتها للجماعات الراديكالية الاسلامية نظرة واحدة لم تتغير، تعتمد على الحل الأمني وعدم الدخول في شراكة معها؟، والوحيد الذي خرق هذا البروتوكول هو الرئيس الراحل أنور السادات، ولكنه ندم فيما بعد، وعاد كسابقيه لاستخدام الحل الأمني. بالتأكيد، هناك فروق بين تلك الأنظمة، ولكن إيمانها بالحل الأمني في مواجهة تلك التيارات يجعلنا أمام فرضية استعادة التمحيص في الفترة منذ 1954 حتى 1981 وما بها من أحداث وتغيرات وصراعات بين النظم المصرية (عبد الناصر والسادات) والجماعات الإسلامية الراديكالية .
إذن فنحن أمام معضلتين أساسيتين في التعامل مع هذا التيار الراديكالي هما: المنطق القائم على إقصاء الكفاءات المصرية، فبالقطع كلمة كفاءة ستعني كفاءة إخوانية أو سلفية فقط لا غير، وهذا يعني مصادرة مصر لحساب طائفة بعينها، وهو نفس منحى نظام مبارك تماما،ً فقاعدة الولاء لا تزال هي الحكم، والمعضلة الأخرى هي عملية التوالد اللانهائي لجماعات إسلامية من تحت عباءة الجماعات الرئيسية الحالية. فاليوم قد يكون عددهم خمس أو ست جماعات، وغداً سيصبحون مئات، وربما آلاف الجماعات والميليشيات. فالمتابع لتاريخ الإسلام السياسي يعي جيداً حجم المأساة والكارثة الناتجة عن قدسية الجماعة الاسلامية التي يتم التنازع عليها لاحقاً لتصبح تلك القدسية هي قدسيات متنازعة (فكر الأمراء السائد في التسعينات، وفكر التوالد لجماعات وميليشيات أكثر عنفاً في السبعينيات).