تأملات فى حياة البـابا شنـوده الثالث قديس العصر . فلسـفته وحكمته من خلال أشعاره وأقواله ومواقفه ( ح – 4 ) بقلم الشاعر فايز البهجورى عندما يجد المرء نفسه أمام قصيدة شعرية فيها عمق فى المعانى ، أو غموض فى الأفكار ، أو صعوبة فى الفهم ، يقولون عن القصيدة أو حتى عن بيت واحد من أبياتها (أن المعنى فى بطن الشاعر) .
ولو صح القول لقالوا ان ( المعنى فى عقل الشاعر) .
و(المعنى) سواء كان فى" بطن الشاعر" أو فى "عقل الشاعر" هو " الفكر الذى يسيطر على الشاعر ويحمل فلسفته ووجهة نظره فى الحياة وفيمن حوله ."
ومع أن البساطه الشديدة والوضوح الكافى للفهم ، الذى يتسم به شعر البابا شنوده فى معظمه ، الا أن محاولة إستخلاص فلسفته العامه " كفيلسوف ومفكر كبير" ،
من خلال العديد من القصائد التى قالها فى مناسبات متعددة .
والمقالات العديدة التى نشرتها له الصحف .
والعظات والمحاضرات التى ألقاها . والأحاديث التى أدلى بها فى الاذاعات ومحطات التلفزيون والفضائيات المحلية والعالمية.
والمقابلات واللقاءات العديدة التى تمت معه
الى جانب كلماته الدوريه فى الاحتفالات الدينية بمناسبة أعياد الميلاد والقيامة وغيرها ..
أو حتى ( قفشاته العارضه ) التى تأتى وليده اللحظه ، فى أحاديثه الخاصه ..
كل هذا الكم الهائل من الفكر والابداع يحتاج الى (فريق كامل للبحث) لكى يستخلص منه الخطوط العامه لفلسفة هذا المفكر العظيم .
ولما كان (فريق البحث المطلوب) ليس متاحا لى . وكان إعجابى بشخصه وشعره أكبر من أن أقف أمام هذا ( الفكر العميق ) موقف المتفرج أو المتذوق فقط . وكان من الضرورى أن أفعل شيئا .
إستعنت - بعد الله - برصيدى من دراسة وتدريس الفلسفة لأكثر من أربعين عاما ، عشت فيها مع فكر فلاسفة العالم فى مختلف البلدان ومختلف العصور .
وإستعنت بخبرتى وتجاربى فى كتابة الشعر لفترة تمتد لاكثرمن نصف قرن، عشت فيها (معاناة الشاعر) وهو يكتب قصائده ، أو يبحث عن (كلمة) تعبر عن (معنى محدد) يريد أن يعبر عنه . و قد يظل أياما يبحث عنها حتى يجدها .
وأحيانا تنطلق منه القصيدة كلها فى دقائق لا يكاد يضع القلم على الورق حتى يفرغها كلها ، ولا تحتاج منه بعد ذلك الا الى عودة ليضع لها (بعض الرتوش) .
أقول حاولت كل ذلك حينما قررت أن أكتب عن ( فلسفة البابا شنودة الثالث ) من خلال ما وصلت اليه يداى من إنتاجه الفكرى الغزير ، مركزا على أشعاره وأقواله المأثورة .
وأتمنى أن أكون قد وقفت ، ولو الى وضع أساس بداية الطريق ، وعلى من يأتى بعدى أن يكمله .
*------------------***-----------------------*
وتتمثل الخطوط العامه لفلسفة قداسة البابا شنودة الثالث فيما يلى: 1 - إرادة التحدى عندما يجد الرضيع نفسه بلا " أم ".
والأم بالنسبة للرضيع هى كل عالمه فى هذه الفتره الزمنيه من عمره .
وعندما يجد الطفل نفسه بل " هويه ". بلا شهادة ميلاد تقول لمن حوله أنه موجود ، بعد أن تحولت الحياة حوله إلى " ورق ".
بلا "شهادة ميلاد" تفتح أمامه أبواب العلم ، من خلال مدرسة تستقبله بين أطفالها وتسلحه بالمعرفه .
وعندما يجد الطفل نفسه يطرق أبواب المدارس واحدة بعد الأخرى فلا يفتح أمامه باب .
ويمر من عمره عام بعد عام ولا ينتظم فى دراسه .
والطريق الى حل تلك المشكلة هو أن يطرق أبواب المحاكم ، ويقف فى مواجهة خصومة قضائية مع من بقى له فى الحياة ، وهو والده ، لعدم قيده فى سجلات المواليد ، حتى يستطيع إستخراج (شهادة ميلاد بالتسنين)
يواجه بها مستقبله .
ما الذى يمكن أن يفعله هذا الطفل الصغير السيىء الحظ ؟
من الأقوال المأثورة (أن الحاجة هى أم الاختراع) . وبالتوازى مع ذلك أستطيع أن أقول (أن التحدى هو ثمرة الحرمان ).
فالطريق المسدود أمام الشخص المحروم يدفعه لأن يركب الصعب . ويقدم على ما يتردد الأخرون فى الأقدام عليه .
هكذا إنبثقت " إرادة التحدى" مبكرة فى نفس قداسة البابا شنودة الثالث ، وهو مازال فى مرحلة طفولته المبكرة . لم تحل أبواب المدارس المغلقة فى وجهه دون السعى وراء العلم ، وتحصيله من منابع أخرى ، كان من بينها قراءة الكتب.
كان يقرأ فى نهم . ويقرأ معظم الوقت . ويقرأ فى كل فروع المعرفه
وكانت إراده التحدى تسيطر عليه حتى فيما اختار ان يقرأه
كان أطفال سنه يقرأون فى كتب ( القراءة الرشيده ) وقصص الاطفال الساذجه مثل ( ساقيه العفاريت ) ( الطيور البيضاء) وغيرها ذات الافكار الضحله المتخلفه .
وكان الطفل نظير جيد وهو فى سن 12 و13 سنه من عمره يقرأ ما كتبه كبار الكتاب و المفكرين لكبار القراء و الراشدين .
وفى حديث له عن ذكرياته فى قراءاته قال:
"وانا ولد صغير قرأت كتاب (قادة الفكر) لطه حسين .وقصه (سارة) للعقاد .وقرأت كتبا كثيرة منها قصص مغامرات شارلوك هولمز وروايات الجيب .
قرأت كتبا فى علم الاجتماع . وفى الطب وغيرها "
] والمعروف أن روايات الجيب هى قصص كتبت للكبار وليست للاطفال [
و الكتابات فى علم الاجتماع وفى الطب هى كتابات للمتخصصين .
أما كتابات العقاد وطه حسين فليس من السهل استيعابها خاصه للاطفال حديثى العهد بالقراءة.
ولكنها أراده التحدى عند الطفل " نظير جيد " الذى أصبح فيما بعد قداسة البابا شنودة الثالث حكيم زمانه ...ومعلم الأجيال .
·وحتى ذهابه الى الدير وانخراطه فى سلك الرهبنه كان تعبيرا عن " أراده التحدى" عنده . حيث لم يكن يستطيع أحد من أفراد أسرته أن يثنيه عن ذلك .
لقد اتخذ القرار . وتحدى الظروف التى كانت تحول دون تنفيذه .
·وتستمر ( أرادة التحدى ) مع قداسه البابا فى كل ما واجهه من مواقف صعبه ، طوال سنوات عمره وحتى آخر أيام حياته .
*------------------***-----------------------*
2
- الاصرار والتصميم على تنفيذ ما يقتنع به وهذه سمه أخرى من سمات قداسه البابا شنوده الثالث ظهرت ملامحها فى فتره مبكره من حياته أيضا . فى مرحله الصبا .
فحينما كان نظير جيد يعود الى نفسه ليكتشف إمكاناته ويقرر على اساسها ما يقوم به وما يمتنع عنه ، كأن يفكر فى كل ذلك بعقلانيه ومنطق بعيد عن الهوى والاغراء.
لذلك كان اذا إستقر على رأى تمسك به ، وأصر عليه ، وصمم على تنفيذه، وسخر كل طاقاته للقيام به.
كما ظهر هذا الاتجاه فى تحويله من "القسم العلمى" الى "القسم الأدبى" فى دراسته الثانويه ، وظهر أيضا فى تحوله من " الحياة العلمانيه" الى " الرهبنه" .
فبعد زيارات متقطعه للدير على فترات تتقارب وتتباعد حسب الظروف التى كانت تتاح له ، وربما كان يجرى فيها تجارب على حقيقه نفسه وما يتفاعل داخلها ، حتى إتخذ قراره الذى لم يعلم به أحد ، وهو الذهاب إلى الدير بلا عوده منه .
لقد بدأت فكرة الرهبنه تختمر فى ذهنه شيئا فشيئا .
فى عام 1951 كتب مقالا فى مجلة (مدارس الاحد) بعد زيارة له ل "دير السريان" كان عنوانها (تمنيت لو بقيت هناك)
ثم بدأت تتقارب زياراته الى هناك . ثم إختمرت فكرة الرهبنه فى ذهنه . وحدد موعد تنفيذها ولم يعلم أحدا من أفراد أسرته بذلك .
( ويصف البابا شنوده هذا الموقف فى ذكريات حياته بقوله)
أهلى كانوا يعرفون أننى باستمرار أذهب للاديره . ففى اليوم الذى أردت فيه أن أذهب الى الدير الى غير رجعه ، قلت لأخى الكبير ، الذى هو ولى أمرى ، والذى ربانى منذ صغرى ،
قلت له : " أنا رايح الدير إنشاء الله . خلصت السنه الدراسيه فى الاكليريكيه وكله . مباقش عندى حاجه خالص . حأروح الدير "
فقال لى : " حاترجع أمتى إنشاء الله ؟" قلت له : "ما أعرفش. كل اللى أعرفه إنى رايح الدير"
فقال لى : "طيب . تروح بالسلامه " ورحت بالسلامه . وبعد ما إترهبنت بعت له جواب كتبت فيه " أنا أترهبنت . وبقى إسمى الراهب انطونيوس السريانى. ومش ها أقدر أقابل أى إنسان يفوت على فى الدير ."
بكوا شويه وإستسلموا للأمر الواقع وصرت راهبا "
(عن كتاب ذكريات فى حياة قداسة البابا شنوده الثالث)
إعداد الانبا يوحنا الاسقف العام لكنائس مصر القديمه والقس انطونيوس ميخائيل كاهن بالكنيسه المعلقه)
هكذا كان قداسه البابا شنوده منذ بدايه حياته .
اذا فكر فى شىء وإستقر عليه ، صمم على تنفيذه متخطيا كل ما قد يعترضه من عقبات
*------------------***-----------------------* 3- الأصرار على التفوق والاصرار على التنفيذ ، كان يسبقه إصرار على التفكير فى الهدف ورسم معالمه:
وكان التفوق واحدا من هذه الأهداف .
لقد كان البابا شنوده – فى كل مراحل حياته – يؤمن بالتفوق ، مع سعى دائم للوصول اليه ، والمحافظه عليه .
والتفوق يمنح صاحبه القوة .
والعالم المتصارع من حوله لا يحترم إلا الأقوياء . ولا مكان للضعفاء .
وكان سعيه نحو التفوق هو صورة أخرى من صور إرادة التحدى ، وهى الخط الأول فى حياته .
واذا كان التفوق يحتاج لمزيد من بذل الجهد والمثابرة ، فليكن ذلك . فالتفوق يستحق كل ما يبذل فيه من جهد.
وقد نجح البابا شنوده فى تحقيق التفوق فى مرحلة مبكرة فى حياته .
فرغم أنه تأخر كثيرا فى الالتحاق بالمدرسه الثانويه - بسبب عدم وجود شهادة ميلاد لديه - إلا أنه عندما إلتحق " بمدرسة الايمان الثانويه الخاصه بجزيرة بدران بشبرا بالقاهرة " وكان فى فصل ثانيه ثانوى (أ) ، كان ترتيبه الأول على طلبه الفصل . وكان مجموع درجاته يزيد 37 درجه على مجموع درجات الطالب الأول فى فصل سنه ثانيه ثانوى (ب)
·وعندما التحق بالجامعه حصل على مجانيه التفوق . وكانت الجامعه بمصرفات فى ذلك الوقت .
·وقد إختار كليه الأداب قسم التاريخ . وفى السنه الأولى كان ترتيبه الأول على دفعته.
·وأثناء دراسته بكليه الأداب إلتحق بكليه الضباط الاحتياط (مدرسه المشاه) . وعندما تخرج منها عام 1947 كان ترتيبه الأول .
·والتحق أيضا بالقسم المسائى بالكليه الأكليركيه . وفى الامتحان الذى عقد فى شهر سبتمبر عام 1947 كان ترتيبه الأول أيضا .
·وبمناسبة الحديث عن فلسفه التفوق عند قداسه البابا شنوده الثالث ، أضيف الى ذلك أنه كان أول بابا شاعر فى العصر الحديث. وأول عضو فى نقابه الصحفيين المصريه يصبح بابا الأسكندريه .
وكان أيضا أول بطريرك ينقل مقره الى مبنى الأنبا رويس بالعباسيه .
وقد تولى منصب البابويه وعمره 48 عاما .
وكان أول بابا يقوم بتقديس الميرون أربع مرات فى خلال 24 عاما من سيامته بابا الأسكندريه .
*------------------***-----------------------* 4- أخذ الأمور بمأخذ الجد والحسم كثير من الناس يجلسون ويحلمون ويخططون ويشرعون .
ولكنهم لا يأخذون ما خططوا له مأخذ الجد . ومع الأيام التاليه تتبخر خططهم وأحلامهم .
وقد يبدأ البعض ما خططوا له ، ولكنهم سرعان ما يتراجعون عنه أمام أول عقبه تظهر فى طريقهم .
البابا شنوده لم يكن من هذا النوع من الناس . كان على العكس من ذلك تماما .
فهو يفكر كثيرا قبل أن يتخذ القرار فى الموضوع الذى يفكر فيه . ولكنه عندما يقرر شيئا يصمم على القيام به . ويقوم به بكل جديه وحسم . يجند طاقاته ووقته وجهده لا نجازه ، فى صبر ومثابرة وتحدى لكل ما يظهر فيه من عقبات .
إن التفكير على هذا النحو ، هو فى حد ذاته تفكير العظماء من الناس . وهو لايتوفر لهم الا بعد فترة غير قليلة من تجارب الفشل والنجاح .
فاذا أضفنا إلى ذلك أن هذا الأسلوب الناضج جدا فى التفكير قد ظهر فى فترة مبكرة جدا من حياته ، وهى فتره الصبا ، فاننا نكون إزاء ما يمكن وصفه (بالعبقريه المبكره فى التفكير) .
ونعود لمتابعة هذا الاتجاه فى فلسفته من واقع مواقفه الخاصة .
** عندما أراد أن يكون شاعرا : عندما كان نظير جيد تلميذا فى المرحله الابتدائيه ، حفظ من بين ما حفظ – بعض الأناشيد والقصائد الشعريه والترانيم الدينية . ويبدو أن هذا اللون من التعبير الأدبى قد أعجبه فقرر أن يقلده .
وبمعنى آخر قرر أن يكون شاعرا .
وبدأت تتفجر فى أعماقه (موهبة الشعر) .
وبدأ يكتب ما يمكن أن يطلق عليه تجاوزا (شعرا)
ولكن (الشعر الجيد الرصين) لا يعتمد فقط على الموهبه . إنه يحتاج إلى دراسه جاده لقواعد الشعر ،وفى مقدمتها الوزن والقافيه وبحور الشعر المتعدده والعلة والزحاف ...ألخ .
وأنا كشاعر أعرف جيدا صعوبة هذه القواعد .
ولكن نظير جيد قرر أن يكون شاعرا . وإذا كانت دراسة قواعد الشعر هى الطريق إلى ذلك ، فليقم بهذا الدراسة مهما كلفته من جهد ووقت . وليأخذ الموضوع بالجديه .اللازمه له .
وهو فى هذا يقول :
"بدأت أقول الشعر وأنا فى "السنه الثانيه الثانوى" . التى تعادل " ثالثه إعدادى حاليا ".
لكنى ما كنت أسميه شعرا ، حيث أننى لم أكن قد درست قواعد الشعر بعد .وكنت اعتبره نوعا من الشعر المنثور . وفى السنه الثالثه الثانويه بدأ إشتياقى لأن أدرس قواعد الشعر.
وفعلا وجدت كتابا فى دار الكتب إسمه ( أهدى سبيل إلى علمى الخليل). وكنت أذهب الى دار الكتب يوميا من الصباح وأقضى الصباح كله مع هذا الكتاب إلى الظهيره ، فاعود إلى البيت وأرجع مره أخرى بعد الظهر إلى دار الكتب لكى أكمل دراستى فى هذا الكتاب .
ومع أن البعض كانوا يقولون إن قواعد الشعر صعبه ، الا أنى درستها تماما وبسهوله من فرط إشتياقى .
لقد كان إتقانى للشعر أمرا هاما."
وفى عام 1940 عندما كان فى السنه الثانيه الثانويه وضع نشيدا لنقابات العمال تم تلحينه وغناؤه .
وأعود إلى دراسه نظير جيد لقواعد الشعر . كانت هذه الدراسه أكبر من سنه . ولكن قوة الاراده وقوة التصميم ، والجديه فى تناول الأمور ، حققت أمنيته فى أن يكون شاعرا .
*------------------***-----------------------* عندما التحق بثلاث كليات فى وقت واحد وثمه موقف آخر .
فبعد أن استقر رأيه على الرهبنة خطط لنفسه أن يتم تحقيق ذلك بعد أن ينتهى من دراسته الجامعية بكلية الآداب .
ومن ناحية أخرى فان النظام المصرى يفرض على الشباب المصرى أن يقضى فترة تجنيد اجبارى مدتها
عام ميلادى بالنسبة لخريج الجامعة ، وهذا الوضع قد يؤخر مشروع الرهبنة عنده لمدة عام .
وبالاضافة الى ذلك فقد فكر فى أن يتزود بثقافة دينية متخصصة توفرها الكلية الاكليركية لمن يرغب من
خريجى الجامعات .، وهذا يعنى أيضا تأخير مشروع الرهبنة لفترة أخرى,
وكان لابد من حل .
وعلى طريقته فى اختصار الزمن ومضاعفة الوقت اتخذ قرارا صعبا .
1 – أن يلتحق بمدرسة المشاة التابعة لكلية الضباط الاحتياط أثناء دراسته فى كلية الآداب ، وهذه الدراسة
سوف تعفيه من الالتحاق بالجيش.
2 - أن يلتحق أيضا فى نفس الوقت بالكلية الاكليركية فى الفترة المسائية ، وهذه الدراسة توفر له قدرا من الثقافة
الدينية المتخصصة .
وبأسلوبه الجاد فى الاقدام على ما يقتنع به نجح فيما أراد أن يحققه .
وفى يونية عام 1947 حصل على الليسانس من قسم التاريخ بكلية الآداب.
وفى نفس العام تخرج من كلية الضباط الاحتياط .
وفى سبتمبر من نفس العام أيضا انتهى من دراسته فى الكلية الاكليركية. ، وبذلك أصبح مستعدا للانخراط
فى حياة الرهبنة .
*------------------***-----------------------* 5 – تقدير قيمة الوقت والقيام بنشاطات متعددة فى وقت واحد ان طريقة تعامل الانسان مع وقته تحدد المستوى الفكرى والحضارى له .
فمعظم الناس يهدرون وقتهم فيما لا يفيدهم ولا يفيد غيرهم .
وقليل منهم يعرفون كيف يستغلون وقتهم أحسن استغلال .
ولكن هناك فئة نادرة من الناس تعرف ليس فقط حسن استغلال الوقت بل ما يمكن أن نسميه
مضاعفة الوقت أيضا.
بمعنى أن ما يحتاج انجازه الى يومين يتم انجازه فى يوم واحد .
وهذا ما أعنيه بمضاعفة الوقت .
والبابا شنودة الثالث هو واحد من هذه القلة من الناس الذين عرفوا كيف يضاعفون وقتهم ، وذلك عن طريق
القيام بنشاطات متعددة فى الفترة الزمنية الواحدة .
فهو ليس فقط متعدد المواهب ، ولكنه أيضا متعددة النشاطات .
وقد ظهر هذا الأسلوب فى العمل فى فترة مبكرة من حياته.
فعندما كان طالبا بالثانوية العامة فى مدرسة راغب مرجان الخاصة بالقاهرة ، ورغم أنه التحق بها متأخرا
فى شهر ديسمبر بعد بدء العام الدراسى بثلاثة أشهر تقريبا ، فقد لاحظ أنه كان متفوقا ، ولذلك فكر فى أن
يلتحق، الى جانب الدراسة ، بأى عمل يدر عليه دخلا ماديا .
وكان له ما أراد .
طلب من إرادة المدرسة أن يتقدم للأمتحان من خلالها ، دون التقيد بالحضور ، لكى يتفرغ للعمل الذى إلتحق به . وكانت هذه أول محاوله منه مما أسميته (مضاعفه الوقت) عن طريق تعدد الانشطه فى وقت واحد .
ونجح الطالب نظير جيد فى الدراسة وحصل على الثانويه العامه (وكان إسمها فى ذلك الوقت التوجيهيه) .
كما نجح أيضا فى العمل الذى إلتحق به .
** وفى مرحله دراسته الجامعيه مارس أيضا فلسفته فى تعدد النشاطات والدرسات ومضاعفه الوقت .
التحق بكليه الأداب قسم التاريخ ومدة الدراسة بها أربع سنوات .
والتحق – فى نفس الوقت – بكليه الضباط الاحتياط
والتحق ايضا بالقسم المسائى بالكليه الاكليريكيه .
كل ذلك فى فترة زمنيه واحده . وفى وقت واحد أراد أن يحصل علوم الدين وعلوم الدنيا وعلوم الحرب والسلام .
وفى يونيه من عام 1947 تخرج من كليه الأداب . وفى نفس العام تخرج من مدرسة المشاة بكليه الضباط الاحتياط وكان ترتيبه الأول .
وفى عام 1949 تخرج من الكليه الاكليريكية ، وكان ترتيبه الأول أيضا .
هكذا كان أسلوبه فى التعامل مع الوقت .
** وفى مجال الأبداع الفكرى كان نشاطه أيضا متعددا.
كان يقوم باعداد الأبحاث . وتأليف الكتب . وكتابه المقالات . وقرض الشعر . وإلقاء المحاضرات .
كل ذلك الى جانب نشاطه الروحى ومسئولياته الدينيه .
** وفى إبداعاته الشعريه كان أيضا متعدد الاشكال .
نظم القصيده الفصحى . وكتب النشيد والزجل والشعر الفكاهى . والمسرحيه . ولم يترك فنا من فنون الشعر الا وأبدع فيه .
لقد كانت فلسفه (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ) متأصله فى وجدانه .
وقد قطع هو الوقت فى أفضل إستغلالاته .
*------------------***-----------------------* 6- العوده للنفس ومعرفه حدود قدرتها قليل من الناس هم الذين قبل أن يتعاملوا مع الآخرين ويواجهون زحام الحياة وحركة الأحداث من حولهم ، يعودون أولا الى أنفسهم . يحاولون معرفه إمكاناتهم ، وحدود قدراتهم . وما الذى يستطيعون عمله وما الذى لا يستطيعونه فلا يقدمون عليه .
وهم نتيجه لذلك يصنعون لانفسهم فلسفه واقعيه متأنيه فى مواجهه الحياة والناس من حولهم. وهؤلاء الناس غالبا ما يحققون النجاح . ونادرا ما يفشلون .
البابا شنوده الثالث كان واحدا من هؤلاء القليلين الذى عرف حقيقه نفسه ومدى قدراته . فأقدم على ما أقدم عليه وهو واثق من تحقيق الهدف فيما سعى اليه ، ومن ثم تحقيق النجاح فيه .
وإمتنع عما إمتنع عنه وهو واثق أيضا أنه لاجدوى فى القيام به .
ولعله قد إستنار فى ذلك بحكمه شعراء ومفكرين وفلاسفه قالوا من قبله :
(قدر لرجلك قبل الخطو موقعها)
و(رحم الله أمرءا عرف قدر نفسه)
ولقد مارس قداسه البابا شنوده هذه الفلسفه منذ فترة مبكرة جدا من حياته .
** فعندما وصل الى السنه الأخيرة فى مرحلة الدراسة الثانويه وهى السنه التى تتشعب فيها الدراسه الى قسمين :
(القسم العلمى) و(القسم الأدبى) .
وحدد كل قسم منهما نوع الدراسة الجامعيه التى يمكن للطالب أن يواصلها . وبالتالى نوع العمل الذى يمكن أن يمارسه بعد التخرج من الجامعه .
فى البدايه ألحقه أخوه (بالقسم العلمى) على أساس أن ما أظهره نظير من تفوق سابق فى الدراسة قد يساعده على دخول كلية الطب أو الصيدله أو الهندسه أو أى كليه من الكليات المرموقه .
ولكن نظير جيد عندما عاد الى نفسه واكتشف أنه لا يصلح لهذا النوع من الدراسة التى تتعارض مع طبيعته الرقيقه الحساسة ، ولم يفلح بريق الطب والصيدله والهندسه أن يجعله ينساق وراء ما لا يرغب فيه .
رأى نظير جيد أن لا يستمر فى الدراسه (بالقسم العلمى) , وتحول منه إلى (القسم الأدبى) رغم إنقضاء نصف العام الدراسى ، ورغم عدم وجود مدرسه يمكن أن تقبله فى القسم الأدبى فى هذا الوقت من العام الدراسى .
يقول قداسه البابا شنوده الثالث عن نفسه وهو فى مرحلة الطالب نظير جيد .
(كنت فى الثانويه العامه قسم علمى الى منتصف السنه . ثم أخذت أفكر فى نفسى ماذا سيكون مستقبلى بعد أن أتخرج من ثانويه قسم علمى .
قلت أحسن مستقبل هو أن أصبح طبيبا . وأنا لم أكن أصلح مطلقا لأن أكون طبيبا . فلم أكن أحتمل أن أرى شخصا مجروحا . وإن حدث فى البيت أن حاولوا أن يزيلوا دمل من أحد أفراد الأسرة ، فانى فى الحال أترك البيت وأخرج .
وأقصى ما كنت أحتمل رؤيته هو وضع القطرة فى عين أحد الاشخاص .
فقلت لنفسى أنا لا أصلح أبدا أن أكون طبيبا .
وبدأت أحول للقسم الأدبى .
وقال لى أخى الأكبر . كيف سأجد لك مدارس لدراسة الأدبى ؟ وأين ؟
قلت له ما تخفش على . وهو كان يثق فى كشخص يطلع الأول باستمرار . فوجد لى مدرسة خاصه أدبى وهى " مدرسه راغب مرجان فى الفجاله بالقاهرة". وأول ما دخلت تفوقت على الطلبه . وكان ذلك فى شهر ديسمبر .
وعلى هذا المنهج فى العوده الى النفس ومعرفه حدودها . سارت بقيه حياته .
*------------------***-----------------------* 7- روح التسامح ومحبه الآخرين تمثل المحبة وروح التسامح بعدا آخر عميقا فى عقل ووجدان قداسه البابا شنوده .
والحب عنده يتجاوز حب الأصدقاء وحب أبناء الكنيسه . إنه يمتد لتطبيق عملى لقول المسيح الذى أصبح مقوما أساسيا من مقومات المسيحيه :
(أحبوا أعداءكم . باركوا لاعينكم . وصلوا من أجل الذين يسيئون اليكم .)
** ويكفى للدلالة على ذلك موقف قداسته من الشيخ محمد متولى الشعراوى ، الذى تمادى فى كراهيته للبابا شنوده ، وحقده عليه . وبالغ فى سبه وقذفه والنيل منه فى شخصه وفى عقيدته وملته . وفى دوره للحفاظ على تأديه رساله القديس مرقس الرسول كاروز الديار المصريه .
كذلك ما صدر عن الشيخ الشعراوى من هجوم على المسيحيين والمسيحيه وتشويه رسالتها الساميه ، وذلك من خلال خطبه المتجنيه التى أذاعها فى الاذعات المصريه والعربيه وقنوات التلفزيون المصريه والعربيه . وسجلها على الاف الاشرطه التى عبأتها له شركات شرائط الكاسيت ، ليسمعها مريدوه فى كل مكان .
ورغم هذا كله لم تصدر عن قداسة البابا شنودة الثالث ، الرجل المنوط له الدفاع عن المسيحيه ، كلمه بذيئه فى حق الشيخ الشعراوى . ذلك لان فلسفة التسامح المسيحى فى عقل ووجدان البابا كانت اكبر من تجاوزات وتطاولات الشيخ الشعراوى وغيره .
بل اكثر من ذلك .
عندما مرض الشيخ الشعراوى وذهب الى لندن لاجراء جراحه له ، أرسل اليه قداسة البابا شنوده أحد الأساقفه ومعه كاهنين وقدموا له باسم البابا شنوده هدية رمزية ومعها باقه ورد . فتأثر الشيخ الشعراوى جدا بذلك . وعندما عاد إلى القاهره قال لقداسه البابا
"لقد طوق أبناؤك عنقى بجميل لن أنساه"
ولقد روى قداسة البابا هذه الواقعة فى حديث له على الفضائيه المصريه مع الدكتوره دريه شرف الدين . عندما أرادت أن تستطلع رأيه فى الشيخ الشعراوى ، على خلفيه كل ما قاله الشيخ الشعراوى ضده وضد المسيحيين .
لم يقل البابا كلمة سب أو قذف واحدة فى حق الشيخ الشعراوى . وكل ما قاله عنه تعليقا على هذه الواقعه . " ومن بعدها ترك الشيخ الشعراوى الأشياء السابقه " ثم أضاف "المحبه تكسب" .
وفعلا المحبه كسبت . ولم يعد الشيخ الشعراوى بعد ذلك يهاجم المسيحيين وقداسه البابا .
** جائزه اليونسكو للتسامح ومحاربه العنف : ولقد كان ولا يزال لفلسفه التسامح ومحبه الغير صداها وتقديرها فى المحافل الدوليه والمحليه .
فقد خصصت منظمة اليونسكو يوم 16 نوفمبر من كل عام ليكون (اليوم العالمى للتسامح وعدم العنف) حيث تختار المنظمه أحد الشخصيات العالميه التى كان لها دورا بارزا فى هذا المجال ، لتمنحه جائزة اليونسكو للتسامح ومحاربه العنف .
وفى 16 نوفمبر عام 2000 قررت اللجنة منح هذه الجائزة لقداسه البابا شنودة الثالث .
وقد جاء فى أسباب إختيار لجنه الجائزه له :
1- دوره الرائد فى التسامح بين المسلمين والمسيحيين فى منطقه الشرق الأوسط .
2- دوره الرائد بين الطوائف المسيحيه كأحد رؤساء مجلس الكنائس العالمى فى الفتره من 1991 إلى 1998 وكأحد رؤساء مجلس كنائس الشرق الأوسط .
3- دوره الرائد فى مساندة القضيه الفلسطينيه والاخوه الفلسطينيين .
4- الكتب والمقالات التى كتبها والتى تحض على المحبه والتسامح .
وقد قدموا لقداسته عند تسلمه الجائزه فى باريس ميداليه تحمل صوره المهاتماغاندى المعروف بعدم العنف .
وفى التسامح يقول قداسه البابا شنوده الثالث :
(النار لا تطفئها نار أخرى . إنما يطفئها الماء)
*------------------***-----------------------* 8- الأحساس بمشاعر الآخرين من الناس من تغلب عليهم روح الأنانيه . فلا يفكرون الا فى أنفسهم . ولا يعيرون إنتباهم أو يعملون حسابا لمشاعر الأخرين .
يقابلهم فريق أخر على العكس منهم تماما . فهم كما يعبرون عن مشاعرهم ، يفكرون أيضا فى مشاعر الأخرين .
وهم لا يقدمون على عمل قد يسعدهم هم ، ولكنه يجرح مشاعر الآخرين .
فاحترام الآخر هو فى نفس الوقت إحترام للذات .
** وكان البابا شنوده شديد الاحساس بمشاعر الأخرين . لم يحاول أن يسىء الى أحد أو يجرح مشاعره حتى لو أساء هذا الأحد اليه .
ولقد عبر فى شعره عن ذلك بقوله :
لكنها مشاعر تمكث دائما معى . تسكن فى حشاشتى .. فى مهجتى .. فى أضلعى مشاعر تتبعنى ... فى صحوتى .. فى مضجعى تجرى دوما فى دمى... كنت أعى ... أو لا أعى ** والاحساس بالآخر بدأ مع البابا شنوده منذ كان تلميذا فى المدرسه .
ففى عام 1941 كتب قصيدة يتألم فيها لفقير أحس أنه ضائع بين أغنياء القوم .. وزحمة الحياة فيها :
حوله الانهار تجرى وبها عذب المياه وهو صاد يتشهى قطرة تشفى صداه جف منه الحلق لكن قد تندت مقلتاه بح منه الصوت من قوله دوما .. آه .. آه . لقد كانت فلسفته أن الانسان بدون مشاعر لا يكون إنسانا .
وهكذا أراد هو لنفسه أن يكون إنسانا . وكان إنسانا كبيرا .
*------------------***-----------------------* 9- الميل الى الزهد والنزعه للتصوف يقول قداسه البابا شنوده فى التعبير عن نزعته الى التصوف والزهد :
فى سنة 1947 كنت طالبا فى الكليه الاكليركيه . وفى ذلك الحين بدأ شعرى يأخذ الاتجاه الدينى والصوفى والروحى ."
وكان شعره يعبر عن حاله ، والرغبه الدفينة في أن يعيش حياة الزاهدين والمتصوفين . وأن يمضى أكبر وقت فى عزلة عن العالم ، وفى خلوة مع الله .
وفى هذا يقول :
قد تركت الكل – ربى – ماعداك ليس لى فى غربة العمر سواك ومنعت الفكر عن تجــــــــــــواله حيثما أنت ... فأفكـــــــارى هناك قد نسيت الأهل والأصحاب بل قد نسيت النفس أيضا فى هواك ***
ولكن لماذا أدار الفتى نظيرجيد ظهره للعالم ، وراح يسعى الى عزلة بعيدة عن ملذاته ؟ السبب من وجهه نظره أنه يرى أن هذا العالم تافه ، وكل ما فيه باطل ، ولا يسعى الى لذاته الا التافهون . وهو ليس من هذا الصنف من الناس .
وقد عبر عن ذلك فى إحدى قصائد :
هل ترى العالم الاتـافهـــا يشتهى المتعه فيه التافهون كل ما فيه خيال يمحى كل ما فيه سيفنى بعد حين هل ترى الآمال الا مجمرا يتلظى بلظــــــاها الآملون لست منهم هم جسوم بينما أ نا روح فر من تلك السجون ***
وثمه سبب آخر جعله يزهد فى هذا العالم ، ولا يأمل فى شيئ فيه . ولقد عبر عن ذلك بقوله :
قد دخلت الكون عريانا فلا قنية أملك فيه... أوغـــــنى وسأمضى عاريا عن كل ما جمع العقل بجهل وإقتنى عجبا هل بعد هذا نشتهى مسكنا فى الأرض أو مستوطنا ؟ ***
ولكن ..
لقد إختار نظير جيد .. الذى أصبح الراهب أنطونيوس .. الذى أصبح الأسقف شنوده .. والذى إختاره الرب ليصبح الانبا شنوده الثالث بابا الاسكندريه
أقول لقد أختار إعتزال العالم ...وقضاء عمره فى مغاره ... فى كهف... فى جبل ...لا يرى غير السماء والرمال..
ولكن إرادة الله إختارته ليكون رجل الله فى قلب العالم ، يجتمع مع الألأف من البشر ... يعلمهم الايمان والحب ... وينقل إليهم كلمه الله ورسالة تلميذه مرقس كاروز الديار المصريه.
يركب الطائرات .. ويعبر المحيطات .. وينتقل بين القارات ... ليتابع ويعقد المؤتمرات ، ويتفقد شعب الكنيسة فى أمريكا .. وإستراليا .. وأفريقيا .. وأوروبا .. وأسيا .
لقد كانت هذه إرادة الله ..
وليس لرجل الله الا أن يستجيب لأرادة الله
.
*------------------***-----------------------* 10 – روح المرح والفكاهه والسخريه من السمات العامة للشعب المصرى روح المرح والفكاهة والسخرية ..
وهذه السمات ترسبت فى وجدان الشعب المصرى منذ الاف السنين .. وهى نتيجه خبرات وتراكمات وثقافه طويله . حفرها الزمن فى عقول المصريين .
والبابا شنوده لم يكن الا واحد من هذا الشعب العريق الذى تمتد حضارته الى عصور الفراعنه .
وبالتالى لم يكن مستغربا أن يرث البابا شنوده من بين ما ورثه من الحضارة المصرية القديمه روح الفكاهه والمرح والدعابة أيضا..
ولهذا لم يكن غريبا أن تنشر إحدى الصحف المصريه خبرا طريفا عن لقاء تم بين البابا شنوده الثالث . وفضيله شيخ الأزهرالراحل الدكتور سيد طنطاوى . يقول :
(إن أول شىء يحدث عندما يتقابل البابا شنوده مع شيخ الأزهر هو أنهما يتبادلان النكت)
قد يندهش البعض لسماع هذا الخبر – وقد يتساءل البعض كيف يحدث ذلك بين قيادتى الدين المسيحى والدين الأسلامى ؟
ولكنى أرى أن هذه هى الحكمه بعينها .
فالنكته من طبيعتها تجلو الصدأ من النفوس – وتعطى للاجتماع روح المرح والحب والصفاء ثم بعدها يقال ما يقال . ويكون الأصغاء اليه كبيرا .
ثم هل كان من المفروض أن يبدأ اللقاء بينهما بأن يشرح البابا لشيخ الأزهر سر الميرون ويقنعه بأن يتحول من الدين الاسلامى الى الدين المسيحى ؟؟؟
أو يشرح شيخ الأزهر للبابا حكايه الأسراء والمعراج ، لكى يقنع البابا بالتحول إلى الدين الأسلامى ؟
أقول أن النكته والدعابه هى المفتاح السحرى لحديث يهدف الى الوصول إلى القلب والعقل.
وثمه شىء آخر ..
إن من طبيعة المصرى عندما لا يجد ما يسخر منه فهو يسخر من نفسه . وعندما لا يجد ما يضحك عليه فهو يضحك على نفسه ..
كما أن الأنسان عندما يجد نفسه فى حالة من المعاناه أو الجو القاتم أو الظروف غير المواتيه ، فإنه يحاول أن ينفس عن نفسه بالنكته . ويخرج من هذا الجو الكئيب بالسخريه أو الدعابه أو ما نسميه ( التريقه) على ظروفه .
***
وهكذا كان البابا شنوده منذ طفولته .
** فى بداية عهده بالدراسه كان المطلوب منه أن يحفظ (أ ب ت) إلى آخر الابجديه العربيه.
ولكنه لم يحفظها فى الوقت المناسب . فلم يكن هناك من يهتم به ويشجعه على حفظها .
فلم يكن أمامه الا أن يسخر من نفسه . يقول نظير جيد :
" دخلت مدرسه الروضه . ما كنت أعرف شيئا . وما كان أحد يهتم بى .
كان والدى فى نهاية اليوم قبل أن أنام يقول لى :
يا نظير . أنت حفظت أ ب ج أقول له : لا يا بوى .
يقول لى نام . أروح نايم . وفضلت نايم على كده سنه "
** وعندما ذهب الى الطبيب (وهو فى الحاديه عشر من عمره) لكى يقوم الطبيب بتسنينه لكى يستطيع أن يحصل على " شهاده ميلاد" تسمح له بدخول المدرسه ، بدأ يداعب الطبيب بتحذيره مما لم يكن يتوقعه الطبيب .
قال له الطفل نظير :" إسمع يا دكتور . أوعى تغلط غلطه مش كويسه ".
دهش الطبيب من المفاجأة . طفل يحذره من الوقوع فى الخطأ فى ممارسته الطبيه .
سأله الطبيب : غلطه إيه ؟
قال نظير : ممكن أن يولد إنسان بعد وفاة والده ، حيث يكون والده قد توفى وترك الأم حبلى ؟
قال الطبيب : ممكن
وهنا علق نظير : لكن مش ممكن أن واحد يتولد بعد وفاة والدته )
وضحك الطبيب وقال لنظير : ليك حق )
وهنا أخبره أن والدته ماتت فى 3 أغسطس 1923 بحمى النفاس بعد ولادته مباشرة . وهذا الموعد يحدد تاريخ ميلاده .
وأقر الطبيب وجهه نظر نظير وحدد له تاريخ ميلاده بالتسنين فى التاريخ الذى حدده نظير.
المهم فى هذه القصه هى الطريقه التى تحدث بها طفل إلى طبيب يلتقى به لأول مره
***
** ويصف نظير جيد نفسه ، وكيف أنه رغم طابع الخجل الذى كان يسيطر عليه ، كان ينزع إلى المرح والسخريه والفكاهه .
ويقول نظير : " فى صغرى . على الرغم من الخجل كانت عندى روح المرح .
فى حفلات الكليه كنت ألقى الأزجال والأشعار الفكاهيه .
وكان الطلبه يبدأون بالضحك بمجرد أن أقف على المنبر.
إنهم كانوا ينتظرون منى أن أقول شيئا يضحكهم قبل أن أقوله."
كان نظير يكره مادة الجغراقيا . وكان يعتبرها مادة صعبه . وبالتالى هى مادة رسوب فى الجامعه .
فما كان منه الا أن كتب قصيده يسخر فيها من الجغرافيا . قال فى بعض سطورها :
حاجه غريبه بادخلها بالعافيه فى مخى ... ماتدخلشى ورياح مبلوله ... تجيب ميه ورياح جافه ... ما تمطرشى ورياح بتساحل فى الساحل تتبع تعريجه... وتمشى ورياح بتغير وجهتها ورياح تمشى ... ما تحودشى أنا عقلى إتلخبط بين دى دى وبين ديه وديه ... ما أفرقشى حاجه غريبه بادخلها بالعافيه فى مخى... ما تدخلش . وعندما كان طالبا بالنسبه الثانيه بقسم التاريخ فى الجامعه أقامت الكليه حفلا بمناسبة تولى رئيس قسم التاريخ لعماده الكليه منافسا لرئيس قسم الجغرافيا .
والقى نظير جيد زجلا .
كان المفروض أن يحيى العميد الجديد . وأن يبلغه عن سعادة الطلبه بتولى العماده الى آخر كلمات المجامله التقليديه .
ولكن نظير جيدا نحا نحوا آخر تماما .
لقد تمنى أن يكون هو نفسه عميد الكليه . وأعلن عن خطته لو تحقق له ذلك .
ماذا سيفعل ؟ سيلغى قسم الجغرافيا . ويمشى الطلبه على العجين ما يلخبطهوش . لأنهم طلبه جهله لا يقدرون مواهبه ولا يعرفون مقداره .
يقول نظير فى بعض أبيات قصيدته :
يا ما نفسى شهر واحد بس مش عايزه يزيد يعملونى فيه عميد أو حتى نائب للعميد كنت أعمل للسكاشن كلها تدريب جديد كنت أمشى الشخص منكم ع العجين ما يلخبطوش كنت الغى قسم جغرافيا ومش ناقص مضايقه متنا من كتر المذاكره ومش بلاقى مذاكرتنا حايقه وده من غير الجغرافيا تبقى دراسه الكليه حاجه رايقه مش ظريف الأقتراح ده يخليكم ما تسقطوش بس يا خساره أنا عايش وسط ناس ما يقدروش لو كانوا يعرفوا مقدارى كانوا ما يسيبونيش لقد كانت أمينه فى ذلك الوقت أن يصبح عميدا لكليه جامعيه , ان يعرف الطلبه مقداره :
ولم يكن يعلم أنه سيأتى يوم يصبح فيه عميدا للكرازه المرقسيه ..وأن العالم كله سيعرف مقداره .
*------------------***-----------------------* تقدير مكانه البابا شنوده ومع أن هذه القصيدة الزجليه الفكاهيه التى ألقاها فى حفل تكريم العميد الجديد بكليه الأداب ، عندما كان هو بالسنه الثانيه بقسم التاريخ ، كان المقصود بها روح الفكاهه والمداعبه ، والتى تمنى فيها أن يكون عميدا للكليه ، أو حتى نائبا للعميد لشهر واحد فقط . فان هذه الكلمات كانت تعبر عن سطح الطموح والأمل عند الطالب الجامعى نظير جيد ، بطريقه لا شعوريه .
يا ما نفسى شهر واحد بس مش عايزه يزيد يعملونى فيه عميد أو حتى نائب للعميد ولكن هذا الأمل كان من وجهه نظره بعيدا فى ذلك الوقت ، لأنه أحس فيمن حوله أنهم لا يقدرونه . ولو أنهم عرفوا مقداره لن يتركوه بعيدا عن هذا المنصب .
بس أنا يا خساره عايش وسط ناس ما يقدروش لو كانوا يعرفوا مقدارى كانوا ما يسيبونيش ولكن الزمن أنصفه . وحقق له ما هو أكبر وأعظم مما كان يأمل فيه فى ذلك الحين، عندما تواجد بين قوم عرفوا مقداره .
* ففى 14 نوفمبر تم اختياره ليكون بابا الاسكندريه وبطريرك الكرازه . المرقسيه الـ 117
* وتم إختياره كأحد رؤساء مجلس كنائس الشرق الأوسط
* وتم إختياره كأحد رؤساء مجلس الكنائس العالمى
* وتم منحه أربع شهادات دكتوراه فخريه ، بعضها من كنائس كاثوليكيه وبعضها من
كنائس بروستانتيه .
وقامت جامعه بون فى ألمانيا بمنحه الدكتوراه الفخريه فى اللاهوت.
* وألتقى بملوك ورؤساء وزعماء العالم
·وأستقبله بعض عمد المدن الغربيه وقدموا له مفاتيح هذه المدن .
·كما سجلوا يوم زيارته لكل منها ليحمل تاريخ هذه المدن أسمه
ولكن أكبر تقدير حصل عليه ، أكبر من رئاسة مجالس الكنائس ، وشهادات الدكتوراه، ومفاتيح المدن .
هو حب الناس له فى كل مكان حل فيه .