الإنسان والدين واللـه
نشهد فى هذا العصر محاولات كثيرة فاشلة، تحاول أن تُقيم نظرية متكاملة عن السعادة، خالية من النبض الإلهى! لأن كثيرين قد رفضوا الدين كدستور نافع للحياة، وقد نسوا أو تناسوا أن الإنسان قد خرج من الله، وستظل روحه هائمة إلى أن يلتقى بالله، كما قال القديس أُغسطينوس.
ولكن يبدو أن العلم وما فجّره من اكتشافات جعلهم يبحثون عن ماديات، متجاهلين قدرة خالقها! ولهذا أصبحنا نرى كل شئ يتحسن: المسكن، المأكل، الأدوية، وسائل الاتصالات، سُبل الرفاهية... نعم كل شئ يتحسن من حولنا إلا البشر! الذين أصبحوا مجرد تروس فى آلة الحياة الكبرى، وقد زادهم التقدم غروراً وكبرياءً، فأقاموا الطبيعة معبداً، والعلم إلهاً، وجدفوا على الله وأنكروا حقه عليهم!!
ولو أنهم تعمقوا قليلاً لوجدوا أن الله داخل فى كل شئ وخارج عن كل شئ، ومن يهاجمه يؤكد حقيقة وجوده، ومن يتشكك بوجوده كمثل سمكة تشكك بوجود الماء من حولها، غير مدركة أن عدم وجود الماء يعنى موتها! وها نحن نتساءل:
إن كان الله غير موجود فلماذا يهاجمونه؟! هل يوجد غير المجنون يصارع كائنات وهمية؟ أيستطيع إنسان أن يسمى ابنه الله ؟ فإن كان اسم الله يرهب البشر، أفليس هذا دليل لا على وجوده فقط، بل وعلى جبروته أيضاً!
ولكن الإنسان لقساوة قلبه وكبرياءه لايرى الله، فصار كالأعمى الجاهل الذي يرفض وجود الشمس لأنه لا يرى فى حين أن حرارتها هى أعظم دليل على وجودها، فإن كان لا يرى الضوء أفلا يشعر بالحرارة!!
لقد نادى " نيتشه " الفيلسوف الألمانى الملحد بأن الله قد مات!! ولكنه لم يقدم طريقة تؤدى إلى خلود الإنسان، وقد تجاهل إن كل ما فى العالم وسائل يخاطبنا بها الله، لكي يؤكد لنا حقيقة وجوده ولكننا لا نسمعه بسبب ضجيج الأفكار، وهيجان الرغبات، وثورة الشهوات، ولو كان لدينا حواس روحية مدرّبة، لكنا نراه فى لمعان النجوم، ونسمعه فى إيقاعات نبضات قلوبنا، ونشعر بوجوده فى كل نسمة هواء من حولنا..
وليس من الصحيح تأكيد وجود الله لمجرد أن بحاجة إليه، فقد تكون الحاجة إلى الله حالة مرضية، مثلما يحتاج الشخص البالغ المريض إلى لعبة صغيرة لينام!! ولكن إن شعر الإنسان بحكم طبيعته، بالرغبة فى الله وبضرورة وجوده، فالأمر هنا مختلف، ففى الطبيعة تمثل الحاجة والرغبة الفطريتان دليلاً على وجود ما من شأنه أن يُرضيهما.
فالطيور المهاجرة تشعر بالحاجة إلى الأراضى الاستوائية، وهذا الشعور هو دليل على حقيقة وجود تلك الأراضى، كما أن حاجة الإنسان إلى الماء والطعام دليل على وجودهما.
إن العالم محدود، إذن لا يمكن له سوى أن يُشبع الجانب المحدود فى الإنسان، وهكذا سيظل الإنسان يبحث عن غير المحدود وإن كان لا يدركه! وكأن الإنسان اختار لنفسه أن يعيش أسيراً فى حلقة مفرغة، حُكم عليه فيها بالجوع والعطش إلى الأبد! إلى أن يجد الله الذى خلقه ولن يستطيع أن يحيا هادئاً بدونه!
وإليك بعض الأمثلة:
نعلم جميعاً أن الإنسان مائت، لأنه كائن مخلوق له بداية، وكل ما له بداية له نهاية أيضاً! لكنه لا يقبل الموت كحقيقة مؤكدة، وإلى الآن يحلم بظهور مادة تجدد شبابه وتُطيل عمره، وتحقق له أعظم أحلامه ألا وهو الخلود! ولأنه عاجز عن تحقيق هذا الوهم يسعى إلى التخليد بوسائل أُخرى قد تكون: عائلة يكوّنها، أو مملكة يحكمها، أو كتاب ينشره، أو أولاد يحملون اسمه... ومن هذه الوسائل وغيرها يُعلن الإنسان أنه يطمع فى لخلود، لأن ما يريده هو الوجود الدائم وليس المحدود!
ولو تأملنا سعى البشر وراء شهوات الجسد لوجدنا أنه سعى وراء غير المحدود، ولنأخذ حب المال على سبيل المثال فنقول: في البداية يحاول الإنسان تأمين مستقبله وهو في هذا لم يخطئ ، ولكن ما أن يزداد غناه فسرعان ما يزداد الطمع بالمال، إلا أن سُلم الطمع لا نهاية له، فماذا يفعل الإنسان؟ يظل يرتقى درجاته إلى أن ينتهى وجوده التافه، الذى لم يكن سوى فراغ محض!
ويتجلى العطش إلى غير المحدود بكل وضوح فى العلم، ولهذا نجد العالم أو الباحث... ما أن يقدم للبشرية اختراعاً، فسرعان ما يبحث عن غيره، وهكذا الفنان والكاتب والشاعر... يسعى كل منهم إلى إبداع ما هو أسمى باستمرار.
فالإنسانية كلها لا ترضى بتراثها سواء العلمي أو الفكري... بل تسعى بمداومة إلى حقيقة أفضل وجمال أروع! ولذلك نرى تاريخ الشعوب حافل بالثورات، ملئ بالانقلابات، وهذه كلها إنما تدل:
ليس فقط على مطامع الإنسان وسد حاجاته الاقتصادية وإشباع شهواته الجسدية فقط، بل وتؤكد أيضاً حنين الإنسان الدائم إلى كل ما هو أفضل، واشمئزازه المستمر من واقعه الذى بمداومة يرفضه، ولهذا لا يمكن أن يبقى على ما هو عليه، لأنه دائم التفكير فى عالم جديد، وباستمرار يتصور أشكال مثالية للحياة، معيداً الكرة بعد كل فشل.
هنا تظهر فكرة التقدم، التي هي أعظم دليل على أن الإنسان، يميل فى كل لحظة لتجاوز نفسه باستمرار، واندفاعه للأمام بحركة لا تتوقف والسبب: إن غير المحدود يجتذبه باستمرار وهو لا يرتاح إلا إليه.
ولو تأملنا في طبيعة البشر لوجدنا أن معظم الناس لا ينجحون في جذب الجانبين: المحدود وغير المحدود معاً، ولهذا فإن اليأس كثيراُ ما يتملك على البشر كنتيجة طبيعية للفشل المتكرر في حياتهم، وما اليأس إلا علامة تؤكد ضعف الإنسان، واحتياجه إلى قوة أعظم منه، تستطيع أن تعالج ما فشل فيه، وما عجز عن تحقيقه.
أما النفوس اليائسة، الحائرة، فلن تحقق استقرارها إلا من خلال علاقة إيمان بالله، هنا يظهر الجانب الإيجابي لليـأس، إذ يجعل الابن المتمرد على الله، يعود إلى ذراع أبيه السماوي مرة أُخرى.. وهكذا فإن العنصر الأبدي الذى زرعه الله فينا، يجعلنا ولو في بعض الأوقات نشعر باليأس، ويتملكنا القلق، إلى أن ندخل أخيراً بيتنا الحقيقي، ونحيا مع الله الذى أحبنا وبذل ذاته لأجلنا.
ألم تسأل نفسك مرة: لماذا عندما يقترب الإنسان من الله يبتعد تلقائياً عن العالم بكل مادياته وشهواته ولذاته..؟ أعتقد أن الاقتراب من اللا محدود يجعل الإنسان لا يبالى بكل ما هو محدود، والحياة مع الخالق تجعل الإنسان لا يتعبد للمخلوق، ألم يقل داود النبي: " َمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئاً فِي الأَرْضِ" (مز25:73)!
أبينا الراهب كاراس المحرقي