الدين واحتياجات الإنسان
لاشك أن الهدف الأسمى من الديانة هو التشبّه بالله من حيث فضائله، والحياة معه، والشخوص فيه، والاتحاد به، والتعلق بمحبته، وهو بهذا يسد احتياجات كثيرة فى الإنسان لعل أهمها:
حاجة الروح إلى العزاءما هو الإنسان ؟ وما هدفه فى الحياة ؟ أعتقد أن الوصول إلى قلب الله والتمتع بحبه.. هو أسمى هدف يمكن أن يصل إليه الإنسان فى هذه الحياة.
ولكن كثيراً ما يبحث الإنسان عن لذته في الماديات، لأنه لم يتذوق بعد حلاوة لذة يسوع التى تفوق كل لذة جسدية، فليس في الوجود أعظم من حبه، ولا أحلى من عشرته، ولا أحن من عواطفه، ولا أعذب من حديثه! سلامه يفوق كل عقل وتعزياته لا يُعبر عنها! وما أجملها لحظات عندما يتردد على القلب فيشعله بنار حبه!
تعجبنى العبارة القائلة: " القلب مثلث لا يملأه إلا الثالوث "، أى الله المثلث الأقانيم " الآب والابن والروح القدس"، فالسباحة في الفضاء والهبوط على سطح الكواكب مهما كان فيها من نشوة، إلا أنها لايمكن أن تملأ فراغ القلب، والحصول على مركز مرموق والسكن في فيلا فاخرة ومشاهدة البرامج المسلية.. لا يمكن لها أن تُشبع جوع الإنسان الداخلى، فلابد للإنسان من الله.
قد يسعى الإنسان لتحقيق شهواته، ولكن الشهوات لا ترحم ولا تشفق، خاصة إذا تملكت على إنسان، أما يسوع ففيه الحب والحنان، فيه الفرح والعزاء، إن كنت فقيراً يغنيك! أو مريضاً فيشفيك! أو حزيناً فيسكب عليك من دهن البهجة والفرح!
كم من جياع أشبعهم من دسم نعمته، وعراة كساهم بثوب بره، وعطاشى سقاهم بكأس حبه، هؤلاء غير المتعبين الذين أراحهم، والمتضايقين الذين عزّاهم، والساقطين الذين أقامهم...
إن من استنارت عيناه وذاق لذة الحياة مع الله، لا يمكن أن يجعل سعادته رهناً للظروف الخارجية، ولا نفسه تتعلق بمشتهيات مادية، لأن رغباته كلها متعلقة بالله، والحق إن السعادة التى مصدرها الآخرين لا يمكن لها أن تدوم، لأن البشر متقبلون فالذين يحبونك اليوم قد يكرهونك غداً، كما أن الإنسان يُحب التغيير، فما أن يحصل على لذة حتى يطلب غيرها، أما الثابت الذي لا يتغير فهو الله.
حاجة العقل إلى معرفة الحقيقةلا ينكر أحد أهمية المعرفة، وما جلبه العلم من وسائل الراحة بواسطة الاختراعات، التى سمت بالإنسان وزادته ارتقاءً، وليس هناك من ينكر دور الأبحاث العلمية والأدبية.. التى لولاها لصار العالم برية قاحلة.. فالعلم أطال حياة الإنسان، وخفف آلاماً، وأفنى أوبئة، وأنار الليل، وبدد الظلام، وسهّل الاتصالات، وجعل البحار تفيض بما فيها من خيرات..
ولكن هناك أسئلة كثيرة.. إلى الآن لم يقدم العلم أجوبة عليها! فمن أنا؟ وما هو سبب وجودي؟ وإلى أين أنا ذاهب؟ ثلاثة أسئلة تؤرق عقل الإنسان الملحد والبعيد عن الدين!
والحق إن الديانة وحدها هي التي تقدم إجابات أكيدة، وسديدة، عن هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة الملحة، التي لا يتمكن الإنسان مهما فعل من حذفها أو تجاهلها! فأنا إنسان قد خُلق على صورة الله ومثاله، وقد وجد فى الحياة لكى يحيا مع الله ويتمتع بحبه، فإذا عاش مع الله ذهب إلى الأبدية حيث النعيم الدائم، وإن عاش للعالم من أجل تحقيق شهواته.. فسوف يذهب إلى الهلاك الأبدى.
كما أن العلوم الطبيعية التي تقوم على دراسة الظواهر وعلاقاتها مع بعضها البعض، ولا تهتم كثيراً بأسبابها، لا نرى فيها إلا تماوجاً بين التأكيد والنفي، إذ هي ترفض اليوم ما قبلته بالأمس، تعلّم بمادية الإنسان تارة، وتارة أُخرى بروحانيته، وثالثة بخلوده، ورابعة بفنائه الكلي.وهذا إنما يكشف عن عجز هذه العلوم، عن تقديم إجابات يقينية على أسئلة الإنسان القديمة / الجديدة.
يقول سليمان الحكيم: " فِي كَثْرَةِ الْحِكْمَةِ كَثْرَةُ الْغَمِّ وَالَّذِي يَزِيدُ عِلْماً يَزِيدُ حُزْنا ً" (جا18:1) وها نحن بهدوء نتساءل: أليس هذا هو إعلان واضح عن عجز العلم بل العلوم البشرية كلها، عن تحقيق السعادة والفرح للإنسان، والإجابة على تسأولاته المحيرة!
وهل ننكر أن الإنسان كلما ازداد معرفة اكتشف جهله، وأن هناك أموراً كثيرة لم ولن يفهمها، ويعجز عن بلوغها فيمتلئ حزناً!!
ألم يقل القديس غريغوريوس النزينزى: " بالحق من يزداد معرفة يزداد غماً، فإن الفرح الذي ينتج عما نكتشفه ليس بأعظم من الألم بسبب مالا نناله، إنه ألم أتخيله كذاك الذي يشعر به الذين يُسحبون من المياه وهم عطاشى".
والحق إن " أفكار البشر ذات أحجام " (حكمة14:9)، فإذا حاول الإنسان أن يتخطى السياج التى وضعه فيها الله، فإنه سيجد نفسه بإزاء ألغاز أبدية، يستحيل على أى فكر بشرى أن يعرف أسرارها، ولهذا فإنه سيعود من جولاته الفكرية خائباً!
نعترف بأن العلوم البشرية محدودة، وتعجز عن سد احتياجات العقل البشرى، الدين وحده هو الذى يٌجيب على تسأولات الإنسان المحيرة، سواء باليقين أو بالإيمان إن كان المقصود هو الله الذى لا يحده عقل، فيأتى الإيمان ليسد عجز العقل المحدود، عندما يبحث فى الله غير المحدود.
حاجة الإرادة إلى فعل الخيرإن الإرادة في الإنسان تنزع بالفطرية إلى عمل الخير وهى لا تريد الشر، إلا إذا اعتبرته من قبل خيراً، فالإرادة في مسيرتها تجاه الخير، هي بحاجة إلى قواعد تساعدها على التمييز بين الخير والشر، وإلى عون يساعدها على فعل الخير وتجنب الشر، والحال إن الديانة وحدها هي التي تقدم للإنسان هذه القواعد وهذا العون.
وربما يستند البعض إلى الضمير للتمييز بين الخير والشر، إلا أنهم لا يدركون أن الضمير في واقع الأمر، يعلن فقط، إنه صوت لا سلطان له في أن يملي شيئاً على الإنسان، كما أن الضمير يمكن أن يُخطئ، وهو يتأثر بعوامل كثيرة..
وهناك من يقولون: إن قاعدة التمييز هي المصلحة الشخصية أو العامة، ولهؤلاء نقول: إن هذا المفهوم يجعل اختلاس مال القريب خيراً، إذا وجد فيه السارق مصلحته الشخصية، وإذا ما نشب نزاع بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، فمن ياتُرى يجبر الفرد على نكران ذاته، والتضحية بمصلحته الخاصة لصالح المصلحة العامة؟ أليس الله بمبادئه ووصاياه التي يعلنها من خلال الديانة ؟
وفئة أُخرى تقول: عاطفة الشرف هي التي تؤسس قاعدة التمييز! ويغيب على هؤلاء أن الشرف هو في الواقع قاعدة غير ثابتة، بل هي نسبية، ولا تفهمه الطبقات الخيّرة من البشر كما تفهمه الطبقات الشريرة؟ كما أننا لا نجد له مفهوماً واحداً في جميع المستويات الإنسانية أو الطبقات البشرية؟ فما يعتبره البعض أعمالاً صالحة في ذاتها، كالانتحار والثأر، هو في الواقع منافي للأخلاق، لأنه يجيز الشر على أنه خير.
وربما يسأل البعض: وأين نجد العون الذي يساعدنا على عمل الخير؟ فإنه لا يكفي أن نعرف أو نرى ذاك الخير، بل يجب أن نحققه في حياتنا، فمن يساعدنا على ذلك، في حين أن ضعفنا الذاتي وأهواءنا تعوقنا على تحقيق هذا الرجاء؟
ولسائل هذا السؤال نسأل: هل يأتينا ذاك العون من الآخرين؟ بالطبع لا، إذ أننا متساوين في كوننا ضعفاء، أيأتينا من القانون المدني؟ كيف يتحقق هذا وهو لا يتناول سوى الأعمال الخارجية؟ ولا يمكنه أن ينفذ إلى أعماقنا، حيث تتهيأ تلك الأعمال؟
إذاً وبلا أدنى شك هذا العون، لا يمكن أن ينحدر إلا من الذي وضع القاعدة الأدبية، أي الله، فهو الوحيد الذى يستطيع أن ينظم أعمالنا وعلاقاتنا، لأنه يرى مافي داخلنا أى أفكارنا ورغبات غير المرئية..
ولكن هذا يتطلب بالضرورة علاقة بين الله والإنسان، وهذه العلاقة هي ما نسميه الدين، الذى هو ضرورة ولاغنى عنه للإنسان.
حاجة القلب إلى السعادةوهذه من أهم حاجات الإنسان، فهناك كثيرون، لا يدركون حاجة العقل إلى الحقيقة، وحاجة الإرادة إلى الخير، ولكن الجميع بلا استثناء ينشدون السعادة، ويتوقون إليها توقاً هو ملء القلب البشري، كما يكمن فينا أيضاً رغبة في سعادة غير محدودة.
وفى سعى الإنسان نحو السعادة قد يخطئ خاصة إن كان لا يعرف ماهى السعادة؟ وكيف يصل إليها؟ فهناك من يتلذذ ويدمن ويقتنى.. محاولاً- لو استطاع- امتلاك كل ما فى العالم!!
ولكننا نعترف بأن العالم رغم اتساعه وكثرة خيراته، إلا أنه لا يمكن أن يُشبع جوع الإنسان! هل فكرت لماذا ؟ لنرجع إلى قصة الخلق ونتساءل: لماذا خلق الله الإنسان؟ أليس لكي يحيا معه ويتلذذ بحبه.
إذن فالإنسان قد خُلق لله ولن يُشبعه إلا خالقه، ولو أنه امتلك العالم بكل ما فيه فإنه لن يشبع! لأن العالم محدود، فإذا حصل على شئ مله، فيبحث عن غيره، لأنه فى الحقيقة يبحث عن غير المحدود وإن كان لا يدركه! وكأن الإنسان قد اختار لنفسه أن يعيش أسيراً فى حلقة مفرغة، حُكم عليه فيها بالجوع والعطش إلى الأبد، طالما اختار أن يحيا بعيداً عن الله!
والواقع إن سعادة هذه الحياة لا تعد سعادة صحيحة، إلا إذا كانت مقدمة لسعادة دائمة في حياة قادمة، فحين نفكر أن الله سيريح ويكافئ الذين يكدون ويتألمون.. فى هذه الحياة، يخف عبئها عنا، ونحتمل بصبر رقاد أعزائنا، لأننا سوف نراهم مرة ثانية في الحياة الأبدية.
والحق إن الاختبار يدلنا على أن المتدينين يشعرون بسلام، حتى في أثناء بلاياهم، ويتصرفون تصرفات يحسدهم عليها الملحدون.
فالديانة إذن هي أُمنية الإنسان، وهى التى تسد حاجاته ما دامت الضرورة تدفعه للبحث عن الحقيقة والخير والسعادة.. التى لا يجدها إلا في علاقته طاهرة مع الله ..
أبينا الراهب كاراس المحرقي