وعند التوقف امام يوحنا 1 : 1 – 13
1 في البدء كان الكلمة و الكلمة كان عند الله و كان الكلمة الله
2 هذا كان في البدء عند الله
3 كل شيء به كان و بغيره لم يكن شيء مما كان
4 فيه كانت الحياة و الحياة كانت نور الناس
5 و النور يضيء في الظلمة و الظلمة لم تدركه
6 كان انسان مرسل من الله اسمه يوحنا
7 هذا جاء للشهادة ليشهد للنور لكي يؤمن الكل بواسطته
8 لم يكن هو النور بل ليشهد للنور
9 كان النور الحقيقي الذي ينير كل انسان اتيا الى العالم
10 كان في العالم و كون العالم به و لم يعرفه العالم
11 الى خاصته جاء و خاصته لم تقبله
12 و اما كل الذين قبلوه فاعطاهم سلطانا ان يصيروا اولاد الله اي المؤمنون باسمه
13 الذين ولدوا ليس من دم و لا من مشيئة جسد و لا من مشيئة رجل بل من الله
"في البدء كان الكلمة،
والكلمة كان عند اللَّه،
كان الكلمة اللَّه" (1).
جاءت هذه العبارة في ثلاثة مقاطع موزونة موسيقيًا في اللغة العبرية، حيث يتكرر في الثلاثة الاسم "الكلمة" والفعل "كان". هنا الفعل يدل على الكينونة الدائمة القائمة في البدء لا على الزمن. في هذه المقاطع: كان الكلمة في البدء، وكان مع الله، وكان هو الله.
"
في البدء": بدأ سفر التكوين بعبارة "
في البدء خلق اللَّه"، أي أنه يتكلم عن بداية المخلوقات، أي بدء الزمن بالخلقة. أما البدء في إنجيل يوحنا فهو ما قبل الخلق والزمن والتاريخ، حيث لم يوجد سوي الله الكائن بذاته. يبدأ ببداية الكينونة "في البدء كان الكلمة" أي أن الكلمة أزلي هو بدأ بما لا بداية له. وقد كرر الرسول هذا الفكر حين قال الرب لليهود: "أنا من البدء ما أكلمكم أيضًا به" (يو 25:8)، أي أنا الكائن المتكلم في الأصل أو منذ الأزل. جاء أيضًا في بداية رسالته الأولى: "الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا" (1 يو 1:1). وقد قال أيضًا للجموع: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يري يومي فرأي وفرح... قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (56:8، 58).
قدم
العلامة أوريجينوس معانً كثيرة لكلمة "البدء"، كما ميز بين البدء في علاقته بالخالق، والبدء في علاقته بالخليقة. إنه البدء بكونه حكمة الله وقوة الله (١ كو ١: ٢٤).
يؤكد الرسول أن الكلمة هو "في البدء"، ليس فقط قبل التجسد بل قبل كل الأزمنة. جاء العالم إلى الوجود بخلقه من البدء، أما الكلمة فكان موجودًا في البدء، أي قبل الأزمنة. لقد عبر المرتل عن أزلية اللَّه أنه قبل وجود الجبال (مز 2:90؛ أم 23:8).
إنه مع اللَّه، فلا يظن أحد أن الإيمان بالكلمة يسحبه عن اللَّه، وكان الكلمة عند اللَّه إذ لا ينفصل عنه قط، من ذات جوهره (عب 3:1). وهو موضوع سروره (يو 5:17)، ابن محبته (أم 30:8).
يتساءل
القديس يوحنا الذهبي الفم لماذا لم يبدأ الإنجيلي بالحديث عن الآب، بل بدأه بالابن الوحيد الجنس، ولماذا لم يبدأ بدعوته الابن الوحيد الجنس بل الكلمة. ويجيب على ذلك بأنه بدأ بالإعلان عن شخص السيد المسيح بكونه "
الكلمة" المتجسد، ليتحدث بفيض فيما بعد أنه "ابن اللَّه". لقب "الكلمة" يؤكد الوحدة، ولقب "الابن الوحيد الجنس" يؤكد التمايز، لذا فاللقبان مكملان لبعضهما البعض. ويقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم تبريرًا لذلك بقوله أن الإنسان غالبًا ما يفصل بين الأب والابن. فيظن أن بميلاد الابن حدث في الله تغيير، فصار الآب، ولم يكن قبل الولادة هكذا، إذ نظن أن الولادة حسية مثلما يحدث في الخليقة، وأنها لم تتم أزليًا. فلو أن الإنجيلي بدأ بالحديث عنه أنه "ابن اللَّه" لدخل الشك لدى البعض أنهما إلهان منفصلان. لذا بدأ باللقب "الكلمة" الذي لا يتخيل الإنسان أنه منفصل عن اللَّه.
+ يدعوه "الكلمة" لأنه يستعد للتعليم بأن هذا الكلمة هو ابن اللَّه الوحيد، فلا يظن أحد أنه ولادته حسّية. فبإعطائه لقب "الكلمة" ينزع مقدمًا ما يتعرض له الشخص من وهمٍ شرير ويزيله عنه. لقد أظهر أن الابن من الآب، وأنه ولد دون ألم (تغيير).
+ لئلا يظن أحد عند سماعه "في البدء" أنه ليس بمولود أيضًا، عالج هذا في الحال بقوله أنه كان "عند اللَّه" قبل أن يعلن أنه هو اللَّه. وهو يمنع أي أحد من افتراض أن الكلمة بسيطة كما لو كانت مجرد كلمة منطوقة أو مدركة، مضيفًا إليها أداة التعريف... إنه لم يقل "كان في اللَّه" بل "عند اللَّه" معلنًا سرمديته كأقنوم. بعد ذلك يعلن عنها بأكثر وضوح مضيفًا أيضًا "والكلمة كان اللَّه".
+ لم يدعه "كلمة" بل أضاف أداة التعرف ليميزه عن البقية (كلمة الإنسان).
القديس يوحنا الذهبي الفم+ هذا التعبير "
في البدء كان" لا يعلن سوى الوجود being الدائم، وأنه وجود مطلق.
+ "كان اللوغوس" لأن كلمة "وجود being " تستخدم للإنسان لتمييز الوقت الحاضر وحده، وأما بخصوص الله فتشير إلى السرمدية. لذلك عندما يستخدم "كان" بخصوص طبيعتنا تعني الماضي، وعندما تستخدم بخصوص الله تعلن عن السرمدية.
+ هذا (الكلمة) هو جوهر إلهي حاصل في أقنوم بارز من أبيه خالٍ من انقسام عارض. وحتى لا تظن أن لاهوت الابن أدنى، وضع للحال الدلائل المُعرفة للاهوته فقال: "وكان الكلمة الله".
القديس يوحنا الذهبي الفم + إذ هو مولود فبسببٍ حسنٍ لم يجزم يوحنا أو غيره، سواء كان رسولاً أو نبيًا، أنه مخلوق. فإن هذا الذي تحدث عن نفسه بتواضع هكذا خلال تنازله لم يرد أن يقف صامتًا في هذا الأمر... لقد نطق بكلمات متواضعة (يو 5: 30؛ 12: 49)... لكنه لو كان مخلوقًا لتحدث قائلاً: "لا تظنوا إني مولود من الآب، بل أنا مخلوق غير مولود، ولست شريكًا في جوهره". لكن إذ هذا أمره، فعلى العكس نطق بكلمات تلزم البشر حتى بغير إرادتهم أو رغبتهم أن يقبلوا الفكر الآخر. كقوله: "
أنا في الآب والآب فيّ" (يو 14: 11)، "أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟ الذي رآني فقد رأى الآب" (يو 14: 9)، وأيضًا: "لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب" (يو 5: 23)، "
لأنه كما أن الآب يقيم الموتى ويحيي، كذلك الابن أيضًا يحي من يشاء" (يو 5: 21). "
أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يو 5: 17). "
كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب" (يو 10: 15). "
وأنا والآب واحد" (يو 10: 30).
+ أصابت الدهشة إشعياء النبي عندما قال: "وميلاده من يخبر به؟ لأن حياته رُفعت من الأرض" (إش 8:53). حقًا لقد رفع من الأرض تمامًا كل آثار الميلاد الأزلي، لأنه يفوق الإدراك. وإذا كان فوق الإدراك فكيف يمكن أن نقول أنه مخلوق، لأننا نستطيع أن نحدد بوضوح زمن بداية المخلوقات وكيفية وجودها، أما البدء فنعجز عن تحديد زمن بدايته.
+ في هذا "البدء Archi" الذي هو فوق الكل وعلى الكل "كان الكلمة"، ليس من الطبائع المخلوقة التي تحت قدمي البدء، وإنما عاليًا عنها جميعًا، لأنه "في البدء"، أي من ذات الطبيعة والكائن دائمًا مع الآب له طبيعة الذي ولده... منه ومعه له السيادة archi على الكل.
القديس كيرلس الكبير+ بالقول "
في البدء كان"، وليس "بعد البدء" يعني أنه لم يكن بدء بدون اللوغوس، وبإعلانه " كان اللوغوس عند الله" يعني غياب أية شائبة في علاقة الابن بالآب، لأن اللوغوس يفكر فيه ككل مع كيان الله ككل.
+ خشي الإنجيلي من أذهاننا التي ينقصها التمرن، ولا يثق في آذاننا ليقدم لقب "الآب"، لئلا يتصور الجسداني في فكرة وجود أم أيضًا. ولم يذكر في إعلانه "الابن" حتى لا يجعل أحد اللاهوت بشريًا بنوعٍ من الهوى. لهذا دعاه اللوغوس، فكما أن كلمتك تصدر عن ذهنك دون تدخل لهوى، هكذا أيضًا عند سماعك "الكلمة" لا تفهم ذلك عن شيءٍ صدر بهوى.
+ أولئك الذين يقدمون لنا أية أفكار صالحة عن مثل هذه الأسرار، هم غير قادرين حقًا على التعبير عن الطبيعة الإلهية.
أنهم يتكلمون بالأحرى عن بهاء مجد اللّه ورسم جوهره (عب 3:1)، صورة اللّه، وفي البدء كان الكلمة والكلمة كان اللّه (يو1:1). كل هذه التعبيرات تبدو لنا نحن الذين لم نرَ الطبيعة الإلهية مثل الذهب من هذا الكنز. ولكن بالنسبة لهؤلاء القادرين على رؤية الحقيقة، فإنها شبه الذهب وليست ذهبًا لامعًا، إنها ذهب مع جمان من فضة (نش 1: 11). إن الفضة كما يقول الكتاب: "لسان الصديق فضة مختارة (أم 20:10)".
هنا نتكشف أن الطبيعة الإلهية تتجاوز كل مفهوم نحاول أن ندركه.
فهمنا للطبيعة الإلهية يشبه ما نهدف إليه. إن أحدًا ما لم يرها ولا يستطيع أن يراها، ولكن خلال مرآة ولغز (1 كو 12:13).
إنها تعطينا انعكاسًا لما نفكر فيه، أي انعكاس موجود في الروح بصورة معينة.
كل كلمة تمثل هذه المفاهيم تشبه نقطة ينقصها أن تمتد، حيث إنها قاصرة عن التعبير عما في العقل...
وكل كلمة تقال كمحاولة للتعبير عن اللّه تبدو مثل نقطة صغيرة غير قادرة للامتداد لتتناسب مع الغرض، إذ تقاد خلال مثل هذه المفاهيم لإدراك ما لا يمكن إدراكه سوى خلال الإيمان بها أن تقيم ذاتيًا طبيعة تفوق كل ذكاء.
القديس غريغوريوس النيسي يتبــــــع